Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الرابع: معيار التخطيب:


* مقياس الأسلبة:


من أهم مقومات القصة القصيرة جدا تنويع أساليبها السردية ومستوياتها اللغوية وسجلاتها الكلامية والتلفظية ، والانتقال من الإخبار إلى الإنشاء، واستثمار نظريات الحجاج ونظريات أفعال الكلام ، والاسترشاد بالقدرات التداولية الإنجازية عن طريق تشغيل الجمل الإنشائية الطلبية وغير الطلبية، والاعتناء بالخطاب المسرود والخطاب المعروض والخطاب المذوت.
ويستحسن أن يتفادى الكاتب الأساليب التقريرية المباشرة والكتابات السطحية الفجة، ويستبدل ذلك بأساليب رمزية انزياحية نابضة بالخرق والشاعرية والإيحاء.
وغالبا مانجد كاتب القصة القصيرة جدا يهجن أساليبه السردية منتقلا من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى المناجاة الداخلية، كما ينتقل من الأسلوب السامي إلى الأسلوب العامي المنحط الدوني الذي يختلط بألفاظ سوقية وأساليب عامية شعبية مع الإكثار من صيغ القدح والباروديا والمحاكاة الساخرة وألفاظ الجنس ودوال الجسد والعهارة كما في قصة ( خنز) و(السوليما) في مجموعة" الكرسي الأزرق" لعبد الله المتقي.
ويستعمل حسن برطال في مجموعته القصصية " أبراج" لغة شعبية مهجنة وملقحة بالفصحى والدارجة المغربية والعامية المفرنسة والإسبانية الممغربة (البوكاديوس). ويعبر هذا التداخل اللغوي المختلط عن تعدد الفئات الاجتماعية والتراتبية الطبقية والتهجين الواقعي في المجتمع المغربي . كما يحيل هذا التهجين على الصراع الطبقي والتمايز الاجتماعي الذي يتميز بالتضارب بين مصالح الفقراء والأغنياء. ويجسد التهجين اللغوي السخرية والوضع الطبقي وتجسيد القيم الإنسانية كما في هذه القصة:" تزوج برائحة الشحمة في الساطور...فسكن الـگرنة ولازمته الكلاب" .
وتدل اللغة على طبيعة الوضع الاجتماعي وتدني الإنسان في قاع القيم المنحطة:" كان بياض الثلج عاجزا عن تبيض قلبه...وبقع الطلاء الأبيض كذلك...
قلب أسود ووجه أسود كان فأل شؤم على كل من يقابله صباحا
كل الصباغين جاد الله عليهم ب"بريكولات" إلا هو..فرغ
المكان من حوله، التفت يمينا وشمالا حمل سطله المعوج وسلمه الأعرج
ثم غادر" الموقف" ".
وعليه، فالأسلبة من مظاهر بوليفونية القصة القصيرة جدا ومن أهم طرائقها السردية الرئيسة ، وتشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى.


* مقياس التبئير السردي:


من المعروف أن كاتب القصة القصيرة جدا يشغل المنظور السردي كما يشغله الآخرون في الفنون السردية الأخرى، فينتقل من الرؤية من الخلف إلى الرؤية " مع" ثم إلى الرؤية من الخارج.
ولكن أغلب القصص القصيرة جدا تستخدم الرؤية من الخلف وضمير الغياب بكثرة من أجل الالتزام بالحياد والموضوعية في نقل الأحداث الخارجية والمشاعر الداخلية. وهذه الرؤية السردية يسميها جيرار جنيت درجة الصفر في الكتابة. وهنا، ينزل الكاتب منزلة الحياد الموضوعي وعدم التدخل داخل عالم القصة، بل يكتفي بالوصف ونقل الأحداث والتعليق والتقويم من خلال فعل السخرية، والتنكيت الملغز.
ومن الأمثلة الدالة على هذا المنظور السردي الذي يعتمد على المعرفة المطلقة قصة( درجة الصفر في الكتابة) لعز الدين الماعزي:" في غرفته وجد نفسه وحيدا ...باردا...
كانت الطفلة تعزف على بيانو...
أسند ظهره للحائط وبدأ يستمع، رأسه يدور...
كان واضحا أن الموسيقى حركت وجدانه،ذكرياته، هي دائما هكذا تسمعه جديد الأنغام الشجية، أحس بذاته تمتلئ إلى درجة أنه فكر في كتابة مواضيع...,طرح أسئلة...بهدوء تام وحذر أخذ القلم وبدأ يكتب...".
وعلى أي، فالمنظور السردي يعتبر مقياسا أساسيا في عملية تخطيب القصة القصيرة جدا وتحبيكها مكانيا وزمانيا.


* مقياس الالتفات:


يلاحظ المتتبع للقصة القصيرة جدا هيمنة ظاهرة الالتفات بشكل لافت من خلال تنويع الضمائر تكلما وتخاطبا وغيابا . ويعبر الالتفات الضمائري عن اختلاف مستويات الرصد الشخوصي وطبيعة التفاعل بين الأصوات المتحاورة في القصة القصيرة جدا. وهكذا، نلاحظ الكاتبة السعدية باحدة تنتقل من ضمير الغياب إلى ضمير المخاطب، ومن ضمير المخاطب إلى ضمير الغياب. بيد أن الالتفات الغيابي هو المهيمن في مجموعتها القصصية: " وقع امتداده...ورحل"":


" فيما مضى، كنت تمارس لعبتك المفضلة
في التزحلق فوق الكلمات
الآن...
صارت الكلمات تمارس لعبتها في
التزحلق من رأسك"


ويبدو أن الالتفات البلاغي من أهم مقاييس معيار التخطيب السردي لمعرفة وجهة الأصوات الساردة أو المتحاورة.

No comments:

Post a Comment