Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الثاني: المستوى الجمالي:


يرتكز المستوى الجمالي على رصد فنيات القصة القصيرة جدا وتبيان مقوماتها الجمالية وسماتها الشكلية البارزة اعتمادا على أركان القصة القصيرة جدا وشروطها الإستيتيقية.
وسنقدم لكم أيضا نموذجا نقديا نقارب فيه المستوى الجمالي للقصة القصيرة جدا ، وسنركز مرة أخرى على مجموعة حسن بن علي البطران:" نزف من تحت الرمال":


" تستند قصص حسن بن علي البطران " نزف على الرمال" إلى عدة مميزات ومقومات فنية وجمالية يمكن حصرها في السمات والخصائص الشكلية التالية:


• الحجم القصير:


يكتب حسن بن علي البطران قصصا قصيرة جدا، تتجاوز الجملة الواحدة لتستغرق القصيصة عنده نصف صفحة أو صفحة كاملة بالتقريب من خلال تراكب الجمل وتجاورها وانفصالها اتساقا وانسجاما .
ويحول هذا الحجم المحدود النص المنكتب إلى قصيصة أو قصة قصيرة جدا تمتاز بالتكثيف والاختزال والاختصار والإضمار وانتقاء جمل متناهية العدد للتعبير عن معان لامتناهية العدد.
ومن الأمثلة النصية التي تعبر عن قصر حجم قصص الكاتب نورد نص:" ضباب" من باب التمثيل ليس إلا:
" سقطتْ من سريرها قطعةُ قماشٍ ، وأصرتْ بشدةٍ
على عدمِ أخذها ..!"


فهذه القصة تتركب من جملتين بينهما رابط عطفي يحقق للقصيصة تماسكها اللغوي واتساقها التركيبي وانسجامها الدلالي، ويعبر حجمها القصير عن غموضها المقصدي والتواء معانيها وتمنعها على المتلقي دلاليا .
لذا، فقصص حسن بن علي البطران تحتاج إلى السبر والتقسيم ومشرط التشريح والتأويل واستنطاق المضمرات المخفية واستكناه الألغاز العميقة وتحويلها إلى منطوقات سطحية واضحة لفهمها وتفسيرها وتمثل دلالاتها المرجعية ومقاصدها التداولية القريبة والبعيدة.
ونورد الآن نصا قصصيا آخر يستغرق صفحة كاملة من البياض والسواد كقصة:" رائحة العلقم" التي يصور فيها الكاتب مرارة الحياة وحموضة ذوقها:


" وجده مرميا على حافة طريق ..
انتشله ، وغرسه وهو في حالة متهالكة في أرضٍ ذات عطاء،
واخضرت أوراقه ..
الماءُ من تحته ، وضوء الشمسِ يحرسه ..
وبعـد فـترةٍ أصبـح وكأنه شــجرةٌ من عشرات السنين في أصالتها وعراقتـها ..!!
زهراتٌ متناثرةٌ فوق أفرعه ..
نهايتها ثمرات جذابة ومغرية .
لكن حينما تتذوقها تجدها مرة وعلقمية ..!
بعد تصفح تاريخ هذا الغصن تبين أنه يعود إلى
بقايا نباتٍ له علاقة بشجرة الحنظل .!"


ومن هنا، يتبين لنا أن حسن بطران يحترم كثيرا المقياس الكمي باعتباره معيارا أساسيا لتحديد القصة القصيرة جدا وتمييزها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والأقصوصة والرواية والمحكيات السردية الأخرى.




* القصصية:


تمتاز قصص حسن بن علي البطران بتوفرها على مقومات الحبكة السردية من بداية وعقدة وصراع وحل ونهاية علاوة على تضمنها للتوتر الدرامي والتأزم القصصي الذي قد ينتهي بالانفراج المباشر أو بحلول مضمرة موحية كما في هذه القصة القصيرة جدا التي يندد فيها الكاتب بعبثية الانتظار ونقد البيروقراطية المتعفنة التي تجعل الإنسان ينتظر الذي يأتي ولا يأتي : " وقف ينتظره ، ووقف ثاني وثالث ورابع و ... ثم جاء سابع ووقف ينتظره ،
ثم ... و عاشر و...
الكل ينتظره .
ثم جاء يبتسم ووقف
وتفرق المنتظرون إلا عدداً منهم ..!
وتلاشت ابتسامته وغاب وجودهم
إلا من وطأت أقدامهم ..!
ويتجلى التوتر الدرامي التراجيدي كذلك في قصته:" صدى .." التي يعبر فيها الكاتب عن حتمية الموت الزؤام بطريقة جنائزية مأساوية تثير الحزن والأسى:
" ناولته وردةً بنفسجيةً بعد حفلةِ عيد ميلادِه الثلاثين .
أبتسم ..
ولا يدري إنها ابتسامته الأخيرة ..!"


ويعني كل هذا أن نصوص المجموعة ذات نزعة قصصية واضحة بمكوناتها السردية، بيد أنها في بعض الأحيان تفتقد تلك النزعة فتتحول هذه النصوص إلى مقاطع وجمل شعرية أقرب إلى القصيدة النثرية منها إلى القصة القصيرة جدا كما في قصة:" عمق حب":


أحببتُها كحبي لحليبِ
أمي ..
أنتظرُ منها مجاملةً كلمة أحبك ..
تعيشُ وحيدةً ؛
وأعيشُ مخلصاً لحبها ..!"


ويلاحظ أن هذه القصة القصيرة جدا التي بين أيديكم أقرب إلى الشعر والخاطرة والشذرة الإبداعية لانعدام الحبكة السردية القصصية بكل مكوناتها الدرامية . لذا، فليست كل القصص الواردة في هذه المجموعة تحترم خصائص جنس القصة القصيرة جدا من ناحية البناء القصصي والسردي والحكائي، بل تختلط كما قلنا بالشعر المنثور وأدب الخواطر وأدب الشذرات الفلسفية.




* الحذف والإضمار:


تتسم قصص حسن بن علي البطران بخاصية الحذف والإضمار. وينتج هذا عن خاصية التكثيف والإيجاز والاختزال والاكتفاء بالوظائف الأساسية والابتعاد قدر الإمكان عن الوظائف الثانوية ووصف الأجواء والتوسع فيها. ومن ثم، يتهرب الكاتب من الإفصاح والتواصل الشفاف إلى استخدام لغة موحية قائمة على حذف المنطوق واستبداله بالمضمر لأسباب سياسية واجتماعية وأخلاقية ودينية ومراعاة المقدسات واحتراما للطابوهات الموروثة عن المجتمع . ومن هنا، تحضر على مستوى الترقيم البصري علامات الحذف الثلاث لتحيل القارئ على عالم الصمت والتشتت والشرود والانطواء على الذات كما في قصة:" شرود":


" يجلس بجانب الشجرة يحتسي
القهوة ..
غارقاً في تفكير عميق ..


حجارة صلدة ترمى بالقرب
منه ..
محبس من الألماس
يغطيه الماء الذي يتساقط من أعلى الجبل ..
يحاول أخذه ..
لا يستطيع ..
قوة هائلة تمنعه ..!"


فالكاتب في هذه القصة لايكشف لنا هذه القوة التي تمنعه ولا يوضحها بشكل دقيق كما تفعل الرواية أو القصة القصيرة مثلا، بل يختم الجملة القصصية بنهاية فارغة ليملأها المتلقي النابه بتأويلاته الممكنة والمفترضة. ويعني هذا أن الكاتب يسكت عن المقول الواضح لكي لا يسترسل في شرح القوى المانعة التي تتعدد في المجتمعات المطلقة التي تحرم الناس من حقوقهم الشرعية وتمنعهم من بناء أحلامهم الوردية، وتتركهم عرضة الشرود والتأمل العاصف.
ويساهم الحذف فنيا وجماليا في تحريك وجدان القارئ واستفزازه ودفعه لتشغيل مخيلته عبر التأويل وتشغيل الذاكرة واستخدام المعرفة الخلفية والتفكير العاصف كما في قصة " حقد" التي تشير إلى الطمع البشري ورغبة الإنسان في الاستيلاء على ميراث الغير حقدا وأنانية:" أخذت الورقة ، ورمقها ببصره ، فصرخت
ثم ابتسمت ..


وقال :من يشاركني في تركة أمي ..؟! "


فعلامات الحذف في هذه القصيصة تؤشر على الإضمار وتجاوز التصريح والمعلن الواضح ، وتعويض ذلك بالعلامات الرمزية والدوال الكنائية والإكثار من نقط الحذف التي تثير رغبة المتلقي في تفكيك سنن القصة ومكنوناتها السيميائية.




* الوصف المقتضب:


يبتعد الكاتب في مجموعته القصصية عن الوصف المسهب والاستطراد المطنب الذي نجده بكثرة في الرواية ليعوض ذلك بجمل قصصية تكتفي بموصوفات مختزلة ونعوت قليلة وأحوال مركزة وصور بلاغية مكثفة كما في قصة" بصمة":
" تفاجأ ، وهو يرتدي ثوبه
الجديد ..
بأنه مثقوب ..!
خيوط الحرير لا تمحو عيبه ،
ولا تستر عمقه ..
يظل الثقب فيه بصمة
للأبد ..!"


ومن هنا، فالكاتب يبتعد قدر الإمكان عن الوصف المسهب الذي قد يقرب القصة القصيرة جدا من الأقصوصة أو القصة القصيرة أو الرواية إذا استرسل الكاتب في تطويل القصيصة بالوصف وإيراد النعوت و الأحوال وتوظيف أسماء التفضيل وصور المشابهة و المجاورة.




* التصوير المجازي:


تستند مجموعة من قصيصات حسن بن علي البطران إلى التصوير البلاغي القائم على المجاز والمشابهة والتضمين الموحي والمجاورة والترميز وتشغيل الاستعارات والتشخيص والأنسنة وتجسيد الأشياء مع تحويل المجردات إلى الحسيات كما في قصة:" صمت" التي استخدم فيها الكاتب الاستعارة والكناية والمجاز لتصوير مرارة الصراع مع الموت:


" تُصارع الموت على فراشها ..
تنظر إليه
عيناها توصيه، لا تبخل على نفسك بعد سفري ..!
يصمت .. يسقط ..
تصل إليها وثيقة سفره الأخير ..!"


كما يرتكن الكاتب إلى استعمال الرموز والإشارات اللغوية الانزياحية للإحالة على الدوال المضمرة ، كما يثري المبدع قصصه القصيرة فنيا بخاصية الإيحاء وخلق المعاني المتعددة كما في قصة" نبش في الظلام":


" رحلت القافلة وهي تقلهم
هي إحداهن .
وقفت القافلة فجأةً ..
وأضاءت الشمعة المكان ،
وتعرت هي ، وصمت الجميع وهم ينظرون إليها ..!
واحترقت الشمعة .."


ومن ثم، تتحول الشمعة والاحتراق إلى علامات رمزية تحيل على جمال الفاتنة وتوهجها المثالي واحتراقها للآخرين الذين وقفوا صامتين من شدة الانبهار والإعجاب.
كما تتحول الخرقة الحمراء الملطخة بدماء العروس إلى رمز ثقافي وأنتروبولوجي في المجتمعات العربية فتؤشر على انتهاك الطابو المقدس وفض البكارة كما في قصة:" فصول .."


" صعد فوق سطح منزله ورفع ( خرقة )
حمراء ممزقة،
وأرتفع صوت أطفال القرية بالبكاء والصياح .."


وعلى أي حال، فالكاتب في قصصه القصيرة جدا يتهرب من التعيين، ويخاف من السقوط والوقوع فنيا وجماليا وأدبيا في التقرير عبر استخدام الأسلوب المباشر الذي يقتل الإبداع ويحوله إلى وثائق إخبارية أو سردية جافة. لذلك، يطعم الكاتب قصصه بنبرات بلاغية رمزية واضحة تارة أو غامضة تارة أخرى، كما يغلفها بصور مجازية موحية غنية بالتضمين والإيحاء.




* الانزياح التركيبي:


يشغل الكاتب في قصصه القصيرة جدا تراكيب فعلية حبلى بالتوتر الدرامي والحركية السردية من خلال تأزيم العقدة وتحبيك ذروتها الرمزية التي تنفرج بحلول مباشرة أو حلول غامضة موحية مضمرة عبر تتابع نقط الحذف ولغة الاختزال والاختصار ليستحضر الكاتب من خلال كل ذلك شخصية القارئ ليشارك الكاتب في تلقي النص وبنائه فنيا وجماليا.
ويمتاز التركيب القصصي لدى الكاتب بترابط الجمل البسيطة والمركبة اتساقا وانسجاما، وصلا وفصلا، كما تترنح نصوص الكاتب القصصية بصيغ الانزياح تقديما وتأخيرا. وكل هذا ناتج عن التشويش الذي يصيب الرتبة النحوية وتخريب المعيار التركيبي ومواضعات الجمل المألوفة عبر انتهاك معايير التركيب الجملي وقواعده الأساسية المعروفة قصد جلب الوظيفة الشعرية انتقاء وتأليفا ، واستحصال خاصية التضمين والإيحاء بلاغيا ، والبحث عن المجاز التصويري لإخراج القصص من طابع التعيين والمباشرة إلى الشاعرية السردية والرمزية الموحية.
وإليكم نصا قصصيا بعنوان:" شلل" ينتهك فيه الكاتب معايير التركيب النحوي حيث يقدم الخبر على المبتدإ، والفاعل على الفعل والمفعول به، والحال قبل شبه الجملة ، والغرض من هذا التخريب اللغوي المتعمد هو التخفيف من حدة المباشرة والتخلص من هيمنة التقرير والتعيين قصد خلق جمالية أسلوبية مستفزة للمتلقي:


" أدار محرك سيارته ..
شاطئ البحر
هدفه ..
افترش رمال الشاطئ
دخان أفكار تهاجمه ..
يغلف جبل رأسه ..!
خريف أوهام يحاصره ..
تمنى أنه لم يطوِ أرضه للشاطئ ..
سحب أعضاءه
مشلولاً عائداً إلى حيطانه الأربعه ..!"


ويظهر لنا من خلال ما أوردناه من نماذج قصصية أن الانزياح التركيبي من المكونات التعبيرية الأساسية التي تستند إليها القصة القصيرة جدا عند الكاتب السعودي حسن البطران ، وبه تغتني قصص مجموعته فنيا وجماليا لتحقيق بلاغة الإمتاع والإقناع.


* السخرية والمفارقة:


تحبل قصص حسن بن علي بطران بالسخرية الكاريكاتورية والمفارقة الرمزية والانتقال من عالم الألفة إلى عالم الغرابة، إذ تتحول نصوصه القصصية جدا إلى رسائل مقصدية وشفرات رمزية موحية قائمة على التلويح والنقد والتعريض كما نجد في قصة :" اهتمام" حيث يهتم الأب بأشياء تافهة على حساب الأشياء الهامة والضرورية. وهذه المفارقة المنطقية لايمكن تصديقها أو استساغتها ذهنا أوعرفا ، إذ تعبر في منطوقها اللغوي عن قسوة الأب وفقدانه للإنسانية الحقيقة وغلبة فلسفة التشييء على حياتنا الاجتماعية بسبب غلبة منطق المادة وحب امتلاك الأشياء وترجيح معايير الكم على منطق الروح ومعايير الكيف:


" يهتمُ به كثيراً ؛ يتفننُ في نظافته والاعتناء به ..
يفضله كأصغرِ أبنائه ..!
فجأةً يفقده ..
يبحثُ عنه ، يسأل ، بناته ، أولاده ، زوجته ..
يؤكدون عدم درايتهم به ..
تقدحُ شرارةٌ ويشتعلُ ويتفجرُ حرارةً
ويثورُ بركانُ غضبه ..


بعد ساعاتٍ خمد بركانه ..!
عندما وجده عند حفيده
يقصُ به ورقاً
ملوناً .. "


ويتضح لنا من هذه النماذج القصصية القصيرة جدا أن المفارقة الساخرة والكاريكاتورية البشعة هي من أهم المقومات التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا بصفة عامة وقصص الكاتب السعودي حسن البطران بصفة خاصة.


* تفعيل الأحداث والمواقف:


تتميز قصص حسن بن علي البطران بالخاصية الفعلية التي تساهم في توفير الحركية الدينامكية والدرامية المتأزمة والتوتر المشحون المتحكم في الحبكة القصصية أو في إطار الحكاية المنكتبة، ويعني هذا أن الكاتب يقلل من الجمل الاسمية الدالة على الثبات والتأكيد، ويعوضها بجمل فعلية حركية ديناميكية. أي يقوم الكاتب بتفعيل قصصه سرديا ودراميا ، وتنشيطها دلاليا وتركيبيا حيث يشغل خاصية التراكب التعاقبي وتتابع الأفعال واستخدام الزمنية الكرونولوجية المتسلسلة كما في قصة" شلل" :


أدار محرك سيارته ..
شاطئ البحر
هدفه ..
افترش رمال الشاطئ
دخان أفكار تهاجمه ..
يغلف جبل رأسه ..!
خريف أوهام يحاصره ..
تمنى أنه لم يطوِ أرضه للشاطئ ..
سحب أعضاءه
مشلولاً عائداً إلى حيطانه الأربعه ..!"


نلاحظ في هذه القصة مجموعة من الأفعال التي تتوالى عبر أسطر القصة: أدار- افترش- تهاجمه- يغلف- يحاصره- تمنى- سحب. وأغلب هذه الأفعال حركية باستثناء فعل تمنى فهو فعل تصوري ذهني وشعوري. كما أن هذه الأفعال تدل قاموسيا على معجم الحرب والصراع والقتال كرا وفرا. وهذا يبين لنا مدى معاناة الكاتب ذهنيا ووجدانيا، إذ يعيش تمزقا نفسيا محبطا وصراعا داخليا وموضوعيا. كما يعوض عجزه وفشله في تغيير الواقع باستخدام أفعال القوة خياليا ولاشعوريا.
ونستشف أيضا ظاهرة الالتفات التي تتمثل في تغيير الأزمنة والأساليب، إذ انتقل الكاتب من الماضي إلى الحاضر عبر أفعال المضارعة، وانتقل أيضا من أساليب الإثبات إلى أساليب النفي، ويترجم لنا كل هذا مدى التردد الذي يعيشه الكاتب كينونيا وأنطولوجيا واضطرابه نفسيا ووجوديا وواقعيا.


* الإيقاعية:


تقترب كثير من قصص حسن بن علي البطران من الخطاب الشعري وخاصة من القصيدة النثرية بسبب وجود الصور الفنية والعبارات المجازية الموحية والكتابة النثرية الشاعرية وتداخل محور المجاورة التركيبية مع محور الانتقاء الاستبدالي الذي يحقق لقصص الكاتب الوظيفة الشاعرية ، كما تتقاطع في النص النزعتان القصصية والشعرية لنجد أنفسنا أمام ما يسمى بالمحكي الشعري الذي تحدث عنه كثيرا إيف تادييه.
وتتجلى إيقاعية قصص الكاتب في استعمال القافية الموحدة (استعمال روي الهاء) كما في قصة" شلل ":
" أدار محرك سيارته ..
شاطئ البحر
هدفه ..
افترش رمال الشاطئ
دخان أفكار تهاجمه ..
يغلف جبل رأسه ..!
خريف أوهام يحاصره ..
تمنى أنه لم يطوِ أرضه للشاطئ ..
سحب أعضاءه
مشلولاً عائداً إلى حيطانه الأربعه ..!"


كما وظف الكاتب التوازي الإيقاعي الداخلي الذي يتجلى في التكرار (تكرار كلمة الشاطئ)، وترديد مجموعة من الأصوات المتوازية كالأصوات الصفيرية المهموسة (السين والشين)، والأصوات التكرارية كالراء، والأصوات المجهورة كالباء والميم والنون.... ويعني هذا أن الكاتب يعزف على إيقاع التوازن الصوتي والتعادل الهرموني والتوازي الصوتي والصواتي.
كما التجأ الكاتب أيضا إلى ظاهرة التدوير التركيبي كما في السطرين الثاني والثالث على غرار التركيب الشعري علامة على الانزياح الإيقاعي الناتج عن خلخلة الرتبة المحفوظة.


* المنظور السردي:


يستعمل الكاتب في أغلب قصصه القصيرة جدا الرؤية من الخلف أو ما يسمى عند جيرار جنيت بالتبئير الصفري الذي يؤشر على الحياد والموضوعية واستقلال السارد عن التحكم في مجرى القصة وعدم التدخل في تفاصيل الحكاية. ويعني هذا أن الكاتب يستعمل رؤية موضوعية في سرد الأحداث على غرار المنظور السردي التقليدي، ويمتاز هذا المنظور باستخدام ضمير الغائب وتشغيل المعرفة المطلقة في نقل الأحداث كما وكيفا، ويكون الراوي في هذا المنظور أكثر علما من الشخصيات. كما يتولى السارد في هذه القصص عملية السرد والتنسيق بين الشخصيات ويتحمل مهمة التعليق والوصف والتقويم وتبليغ الرسائل والتعبير عن المشاعر والانفعالات.
وإليكم قصة يشغل فيها الكاتب الرؤية من الخلف بعنوان" العاصفة":
"
نهضت من نومها فزعة ..
شرشف أبيض تزينه رسومات
بجوارها ..
قطة سوداء تتلاعب به ،
تجره إلى خارج الغرفة ..
عاصفة تنقله إلى مكان
آخر ..
إلى سرير آخر في غرفة
بعيدة ..!"


يتبين لنا من خلال هذه القصة أن السارد يتوارى وراء قناع الشخصية ملتزما الحياد حاملا كاميرا خلفية تعكس لنا الشخصية المحورية من خلال سرد الأحداث وحكي تفاصيلها وملامحها المكثفة مع ذكر مواصفاتها تاركا للقارئ مساحة التخيل والتدبر الذهني لتفكيك الرسالة وحمولاتها الرمزية والمرجعية.


* الشخصية المغيبة:


من يقرأ قصص حسن بن علي البطران القصيرة جدا، فسيجدها قصصا محبكة سرديا وشعريا، لكنها تشتغل بشخصيات مغيبة وغير محددة بدقة، أي شخصيات هلامية مجهولة الاسم والهوية والقسمات وغير موصوفة بإسهاب وتفصيل كما في الروايات الكلاسيكية. وتقترب هذه الشخصية من الشخصيات الموظفة في الرواية الجديدة حيث تتحول إلى علامات ودوال شعرية أو سردية وأرقام بدون حمولات إنسانية أو مرجعية أو واقعية.
ومن الأمثلة الدالة على الشخصية المغيبة لغويا ومرجعيا نذكر على سبيل التمثيل قصة:" عناق":
" عانق إحدى شفتيها وانسابت سكرانة تحت أذيال
أطرافه ..
موسيقى نبراته الهادئة أعادت إليها وعيها ،
بعد فيضان نهره الدافئ في بستانها توسلت به أن لا تنبت أشجاره
قبل فصل الربيع ..!!"


ونورد قصة أخرى بعنوان:" مستقبل":




" كل صباح يحمل حزمته ويخرج من وكره
ويستقر على شاطئ هو بإمكانه أن يحفره وينقشه :
شاطئ أمان ..
أو شاطئ خسران ..!"


هكذا نستنتج أن قصص الكاتب تغيب فيها الشخصيات المرجعية الواقعية المحددة بالاسم والهوية، ولانجد فيها سوى الضمائر التي تحيل عليها إضافة إلى مجموعة من المحددات اللغوية التي تؤشر على كينونة هذه الشخصيات التي تأخذ طابعا كليا مجملا."

No comments:

Post a Comment