Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الرابع: المستوى البصري:


يتعلق المستوى البصري بتحديد الفضاء النصي ، ورصد الهندسة الطبوغرافية ، وتبيان وظيفة علامات الترقيم فوق الإطار الورقي، وتحديد حجم القصة على ضوء ثنائية البياض والسواد ، والإشارة إلى الأيقونات واللوحات التشكيلية ودلالات التلوين التي تحويها صفحة القصة القصيرة جدا.
ونختار لكم نموذجا دراسيا في مقاربة فضاء القصة القصيرة جدا،وينصب هذا النموذج على مجموعة:" نزف من تحت الرمال" للكاتب السعودي حسن بن علي البطران:


" ينوع الكاتب فضاءاته القصصية بياضا وسوادا بعيدا عن الفضاء المتوازي أو السيمتري الذي نجده في الشعر الخليلي العمودي المتناظر البيتين، فينتقل الكاتب في هذه المجموعة القصصية من فضاء الجملة كما في قصة:" ضباب":


" سقطتْ من سريرها قطعةُ قماشٍ ، وأصرتْ بشدةٍ
على عدمِ أخذها ..!"




إلى فضاء السرد القصصي كما في هذه القصة القصيرة الرمزية الموحية التي كتبها حسن بطران في هيئة سرد منثور يهيمن فيه السواد على الفراغ ومساحة البياض كما في قصة " انفلات":


" على وجلٍ تلاقت نظراتهما على المائدة ، وكلاهما شحن وجدانه بالآخر ، سنحت فرصة للقاء بينهما ، وفيه اشترى كلاهما من الآخر (كومة ) من العسل والسمن البلدي الأصيل ..!
ولم ينس كلاهما أن يهدي الآخر الذهب والعقيق ..!"






وينتقل الكاتب بعد ذلك من الفضاء المسردن حكائيا إلى الفضاء الشاعري الذي يشبه طبوغرافية الشعر وخاصة فضاء القصيدة المنثورة من خلال استعمال الأسطر والجمل الشعرية والمقاطع البصرية كأني بالشاعر يكتب النثر بالشعر والعكس صحيح أيضا.
ومن أمثلة القصص التي تكشف لنا هذا النوع من الفضاء الشاعري قصة:" انتصار حمامة" التي يجسد فيها الكاتب انتصار الحب والسلام على الحقد البشري والشر الإنساني:


" رآها خلف الجبل مستلقية على ظهرها ناشرة ثدييها ،
عيون من بعيد تتلذذ بتقاطر لبنها ..!
بالجهة الأخرى من الجبل حمامتان فوق شجرة تنوحان ..
يهطل المطر ، ويقرب قطيع الغنم ،
وتغطي ثدييها وترحل ..
ويُعلن أن النصر قد تحقق ."


ومن مظاهر شاعرية هذه القصص استعمال تراكيب جملية مدورة قائمة على الوقفة الدلالية كما في هذا النموذج القصصي الذي استعمل فيها الكاتب التدوير التركيبي من خلال إيراد المكون الوصفي في السطر الثاني الذي لايتكامل في المعنى إلا بالارتباط مع السطر الأول:


" صعد فوق سطح منزله ورفع ( خرقة )
حمراء ممزقة،
وأرتفع صوت أطفال القرية بالبكاء والصياح .."


وقد استعان الكاتب أيضا بفضاء المفارقة الناتج عن تناقض الدوال والقيم وتداخل السالب والموجب في تشكيل الصورة القصصية المتوترة عن طريق اللعب بالمتضادات والمتناقضات الساخرة كما في قصة" تبخر أمل":




" تركها والمخاض يداعبها، وراح يعلن للملأ أنه
أصبح أبا ..
عاد وقد تبخرت فرحته
وأعلن الحداد .."


وعلى العموم، فقد استعمل الكاتب فضاء الجملة، وفضاء السرد، والفضاء الشاعري، وفضاء المفارقة، وهذا التنوع الفضائي يغني تجربة حسن بطران القصصية والإبداعية.
هذا، ومن أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامات الترقيم والتحكم فيها فنيا وجماليا عن طريق المفارقة والتهجين والباروديا . والمقصود من هذا الكلام أن الكاتب يرسي قصصه على الخطاب الترقيمي الساخر عبر تشغيل علامات أيقونية سيميائية تعبر عن موقف الكاتب من الذات والواقع والعالم . فنقط الحذف وعلامة التعجب والفواصل والنقط الواقفة كلها تتكلم شعوريا ولاشعوريا، وتبوح بالفكاهة الكاريكاتورية لانتقاد الواقع وتعريته، وتعبر بكل جلاء ووضوح عن سخرية الموقف الحدثي.
ويتبين لنا كل هذا بجلاء في قصة " رجولة" حيث يستعمل الكاتب الفواصل والنقط وعلامات الحذف والتعجب والاستفهام للتعبير عن المنطوق والمستور اندهاشا واستغرابا واستفهاما؛ لأن الكثير من القضايا لدى الكاتب تحتاج إلى نقاش ومعالجة جادة. ومن ثم، يطرح الكاتب مجموعة من الاستفهامات المثيرة والإشكاليات المحيرة للإجابة عنها:


" تتأمل نقوش حنائها التي يطفو فوق أديم
يديها ..
هالات مضيئة تعلو سماء سمرتها ، ونهر دموع عينيها يجري ويروي عطش بستانها ؛ ويزيد لمعان زجاجات براءة فرحتها ..


من ورائها أسراب تغني وترقص
إلى مخدع أنوثتها ..!
من خلفه يحكم الباب ..
تنزوي في زاوية غرفتها ، يدنو منها تضطرب
وتتراقص أطرافها ، وتتهاطل مطراً ..!
أشعة الشمس تحميها من رجولته ، وتطرد وحشتها ..
الباب يُقرع ..
صوت أمه من خلفه يخترق غلاف طبلة أذنه:
أتستحق لقب خليفة أبيك ..؟؟!!"


وعليه، فعلامات الترقيم لغة سيميائية ضمنية تساهم في تبئير الأحداث التي تتضمنها القصص ، وتفجير مدلولاتها الإيحائية المضمرة التي تخفي الواضح وتواري المنطوق لتدخل المتلقي في لعبة التخييل والتفكيك وتشريح الرموز والدوال المبطنة بالإشارات الموحية الحبلى بالدلالات العميقة."

No comments:

Post a Comment