Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث السادس: المعيار البلاغي:


1- مقياس الصورة الومضة:


تستند الصورة الومضة إلى التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا، أي إن الصورة الومضة هي صورة مركبة ومركزة ومختزلة تنبض بالإشراق الروحاني واللمعان الوجداني والتفاعل الحركي.
وتستخدم الصورة الومضة جميع الآليات التصويرية والتشخيصية كصور الانزياح وصور التنكيت والتلغيز مع استثمار الاستعارة والمجاز و صور التشخيص والأنسنة والترميز والإيحاء والتضمين لخلق عوالم تخييلية فانطاستيكية وأسطورية وأجواء كاريكاتورية قوامها السخرية والاستهزاء بما هو كائن والتنديد بالواقع السائد مع استشراف ماهو ممكن ومحال.
ومن نماذج هذه الصورة الومضة قصة: "حريق" لمصطفى لغتيري:" على ورقتها رسمت ضحى نجمة...فجأة اشتعلت النجمة، فاحترقت الورقة... شبت النار في قاعة الدرس...هرب التلاميذ...أخبروا المدير، فنادى رجال الإطفاء.
على عجل أطفئت النار...وجد المعلم يحتضن النجمة، لكنه لم يحترق"
تمتاز هذه الصورة الومضة التي وظفها مصطفى لغتيري بالتشخيص المجازي والمفارقة والانزياح الدلالي والمنطقي.
وهناك قصة أخرى بعنوان:" قوس قزح":
" ارتدت الصبية فستانا أصفر فاقع لونه، يتخلله أحمر زاه...رنت بعينيها النجلاوين نحو المدى البعيد... ارتعش الكون.... خفق قلبه فرحا، ثم مالبث أن ارتسم في الأفق قوس قزح بألوانه الزاهية."
وهذه الصورة نموذج للصورة الومضة المختصرة التي تربك القارئ بدلالاتها الانزياحية وتعابيرها المجازية الخارقة استعارة وأنسنة وإيحاء.


2- مقياس المفارقة:


ترتكز المفارقة على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا، كما تنبني على التناقض وتنافر الظواهر والأشياء في ثنائيات متعاكسة ومفارقة في جدليتها الكينونية والواقعية والتخييلية.
وتعتمد كثير من نصوص القصة القصيرة جدا على عنصر المفارقة القائم على التضاد والتقابل والتناقض بين المواقف أو بين ثنائية القولي والفعلي والاعتماد على التعرية الكاريكاتورية والكروتيسك وتشويه الشخصيات والعوالم الموصوفة والأفضية المرصودة بريشة كوميدية قوامها التهكم والباروديا والتهجين والأسلبة والانتقاد والهجاء.
والمفارقة في الحقيقة هي:" عنصر من العناصر التي لاغنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدإ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في التعبير عن الموضوعات الكبيرة، كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات."
وهذه الكاتبة المغربية السعدية باحدة توظف المفارقة التاريخية بطريقة ذكية تحير القارئ برموزها البعيدة والعميقة كما في قصتها:" تهمة":
" تصاعد الدخان من روما...اتهموا نيرون
ماكان نيرون بالكمان مفتونا...
ماكان عاقلا وماكان مجنونا...
اسألوا تاسيتوس فعنده الخبر اليقين:
إن روما هي التي أحرقت نيرون"


ونجد هذه المفارقة في قصص عزالدين الماعزي كما في قصته الساخرة المفارقة" قصص طويلة جدا":


"كلمته ابنته عبر الهاتف عن سر غيابه الطويل عن البيت...قال..
إنه في ندوة ثقافية يشارك بقراءات قصصية قصيرة سيعود بعد ثلاثة أيام...
قالت...
كل هذه الأيام وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا...؟؟"


يلاحظ أن الكاتب وظف في قصته المفارقة القصصية الإبداعية عن طريق تشغيل الأضداد: طويلة جدا# قصيرة جدا، غيابه الطويل# قراءات قصصية قصيرة. وتوقع هذه المفارقة دلالات القصة ومضامينها الإبداعية في منطق الاستحالة والتناقض غير المقبول عقليا.


3- مقياس السخرية:


تعد السخرية من أهم المكونات الجوهرية للقصة القصيرة جدا ، وذلك من خلال عمليات الإضحاك والكروتيسك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع.
ومن يتأمل قصص مصطفى لغتيري وقصص غيره من كتاب القصة الكبسولة كعبد الله المتقي، وفاطمة بوزيان، وجمال بوطيب، وعز الدين الماعزي ،وسعيد بوكرامي،ومحمد العتروس،وسعيد منتسب،ومحمد تنفو، وحسن برطال، ورشيد البوشاري، وأنيس الرافعي، وهشام بن شاوي، وأحمد الويزي، ومصطفى الكلتي، ومحمد عز الدين التازي، وكريم راضي، ومحمد زيتون، ومحمد الكلاف، وميلود بنباقي، ومحمد مفتوح؛ ومصطفى بندحمان... فإنه سيصادف ظاهرة السخرية الناتجة عن المفارقة الصارخة، والانزياح المنطقي، وكثرة الباروديا ، وهيمنة الخلل العقلي، وتكسير المواضعات السائدة ، وتخييب أفق انتظار القارئ، وانقلاب موازين القيم ، وانكسار القواعد السائدة المقبولة ذهنيا وواقعيا أمام اللاعقلانية الضاحكة وحقيقة الجنون.
يقول مصطفى لغتيري في قصته :" وثيقة" :" لأنه يحب الوطن حبا جنونيا، اعتقلته السلطات، واحتفظت به في زنزانة منفردة، خوفا عليه من الضياع.
إنها – اللحظة- تفكر جديا في عرضه في المتحف الوطني".
يعتمد الكاتب في هذه القصة الساخرة على تعيير الواقع المتناقض، والثورة على الوعي الزائف، وإدانة سياسة الاستلاب وتزييف القيم الإنسانية، كما تقوم هذه السخرية على الفكاهة والتنكيت والتهكم والتعريض والتلميح والإيحاء والضحك كالبكاء.
وتتميز قصص حسن برطال بسمة السخرية من الواقع الإنساني الذي انبطح إلى أسفل سافلين، وتقزم فيه البشر وصاروا كائنات ممسوخة بالشر وزيف القيم . ومن هنا تطفح قصص الكاتب بروح السخرية والانتقاد البشع للواقع المغربي بصفة خاصة والواقع العربي بصفة عامة كما في هذا المقطع القصصي الذي يوحي بالعبثية الساخرة والسياسة الماكرة:" تصدع الجدار ثم انهار...وللوقوف على سبب الحادث حمل الخبراء"حجيرة" وبعض العينات من الركام إلى المختبر لدراسة هذه المواد المستعملة في البناء..." .
وتبلغ السخرية وقعها المأساوي في هذه القصة الموحية:" دعته الوكالة البنكية لتصفية حسابها معه....حمل ساطورا وصفى حسابه مع المدير..."


وتلتجئ الكاتبة الزهرة رميج كذلك إلى أسلوب المفارقة والسخرية الكاريكاتورية لتعرية الواقع وانتقاده تعييرا وتحقيرا لبشاعته وحقارته وفظاظته القيمية وانحطاطه أخلاقيا واجتماعيا وإنسانيا كما في قصة: ذوق":


" مل عالم المومسات الذي أدمنه زمنا طويلا.
أراد أن يتزوج امرأة صالحة.أصبح يواظب على مراقبة الفتيات المارات أمام المقهى.
أخيرا، عثر على ضالته. تبعها في تهيب، وقد قرر الكشف عن نيته.ما إن أصبح محاذيا لها، حتى بادرته هامسة:
لا أتجاوز ربع ساعة . والدفع مسبقا.هات المبلغ بسرعة، واتبعني عن بعد".


وهكذا، تعتبر السخرية من أهم المكونات البلاغية للصورة القصصية القصيرة جدا بسبب طاقتها التعبيرية والإيحائية والرمزية.

No comments:

Post a Comment