Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الثاني: المعيار السردي:


يرتكز المعيار الشكلي أو الفني أو الجمالي لفن القصة القصيرة جدا على مجموعة من المقاييس التي يخضع لها هذا الفن المستحدث في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، ومن أهم المقاييس التي ينبني عليها المعيار الشكلي نستحضر المقاييس الفنية التالية:


1- مقياس القصصية:


تشترك القصة القصيرة مع باقي الفنون السردية كالأقصوصة والقصة القصيرة والرواية والرواية القصيرة في الانطلاق من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركزة تؤديها عوامل وشخوص معينة وغير معينة في أفضية محددة أو مطلقة مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة عبر منظور سردي معين ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطئا مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معية.
وإذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية تحولت إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية...
ومن شروط هذه القصة أن تخضع لفاعلية القراءة ومستلزمات الاتساق والانسجام والبناء الحجاجي مراعاة أو انتهاكا.
وهكذا، تكتمل مثلا في مجموعة عزالدين الماعزي النزعة القصصية والتخطيب السردي الحكائي. ونعني بهذا أن قصصه الرمزية والتقريرية معا تتوفر فيهما الحبكة السردية والنزعة القصصية بمكوناتها الخمس: الاستهلال السردي، والعقدة الدرامية، والصراع، والحل ، والنهاية التي قد تكون مغلقة معطاة، أو مفتوحة يرجى من القارئ أن يملأ فراغ البياض ونقط الحذف عن طريق التخييل والتصوير واقتراح الحلول الممكنة. ويا للعجب العجاب! فما تقوله قصة من قصص الماعزي الموجزة في أربعة أسطر أو صفحة واحدة من الحجم المتوسط تعجز كثير من الروايات الكلاسيكية والحداثية بصفحاتها الطويلة ومجلداتها المتسلسلة أن تقوله بوضوح و جلاء وروح شاعرية فكاهية مقنعة. ومن هنا، نرى أن القصة القصيرة جدا ستكون جنس المستقبل بلا منازع مع التطور السريع للحياة البشرية والاختراعات الرقمية الهائلة وسرعة الإيقاع في التعامل مع الأشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية.
ومن أمثلة النزعة القصصية المحبكة بشكل متكامل في صياغة الأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور والزمن والسجلات اللغوية والخاصية الوصفية نذكر قصة: (حذاء شطايبه):" يضع شطايبه قبعته نظارته السوداء يهيم في الشارع يخيط بعينيه أرداف الفتيات ويمسح غبار الأزقة وكراسي المقاهي.
لا يدري شطايبه الذي أصابه إنه قلق منقبض كتوم...
شطايبه يضع صندوقه في يده يتابع سيره بين المقاهي يتطلع إلى الأحذية التي تود المسح... وهو في طريقه يصطدم مع كلب هو الآخر يبحث عن عظمة أو فتات أمام باب مقهى يلتفت إليه ينهره يرفع رجله ليضربه يرفع الكلب أذنه تظهر أنيابه يفتح فاه يزمجر الطفل يغضب الكلب يرفع رجله يتلقاه الكلب فيلقم حذاءه يهرب الكلب بالحذاء يرمي شطايبه الصندوق يجري ويجري يضيع الصندوق والحذاء..." (ص:50).
ويبدو لنا أن هذه القصة تتوفر على مقومات الحبكة القصصية من أحداث وفواعل وفضاء سردي ومنظور ووصف وأسلبة وتزمين.


2- مقياس التركيز:


نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية والأفعال النووية مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة. أي إن على المبدع أن يشذب الزوائد المعيقة، ويبعد عن نصه كل الفضلات والملحقات التي لاتخدم الحبكة القصصية. ويعني هذا أنه من الأفضل للمبدع أن يركز على الأفعال الإسنادية التي تكون بمثابة العمدة، ويجتنب قدر الإمكان الفضلات القائمة على التوسيع والإسهاب والتمطيط. كما ينبغي عليه أن يبتعد قدر الإمكان عن التفصيلات المتشعبة، ويكتفي إن اقتضى الأمر بالتفصيلات الجزئية المختزلة التي تخدم النص.
وإذا تأملنا قصة " فرح" لمصطفى لغتيري المأخوذة من مجموعته القصصية القصيرة جدا:" تسونامي" فإننا نجد أنفسنا أمام وظائف أساسية وأفعال إسنادية عمدة تتشكل في أغلبها من أفعال ماضية تامة أو ناقصة: أعد- انتظر- تأجل- حل- كان- تعفن...بدون استزادة إسهابية أو استطرادية في التفصيل أو الحشد اللغوي.
وقصة:" فرح " على الشكل التالي: هي:" قبيل حلول العيد، أعد نفسه للفرح...مساء انتظر كباقي الناس ظهور الهلال، لكنه لم يظهر، فتأجل العيد يوما واحدا...
حين حل العيد كان الفرح قد تعفن."
وهذا التركيز نجده جليا في أقصر قصة قصيرة كتبت في التاريخ وهي للكاتب الغواتيمالي أوغسطو مونتيروسو:" عندما استيقظ ، كان الديناصور لايزال هناك" .
لم يستعمل الكاتب في هذه القصة إلا فعلين أساسين في تشكيل قصته وتحبيكها، مع العلم أن الفعل " كان" مجرد رابطة مساعدة دالة على زمنية الفعل الماضي. وهذه القصة في الحقيقة تمثل قمة التركيز، كما تحمل في طياتها دلالات عدة منفتحة وموحية.


3- مقياس التنكير:


إذا كانت الكثير من الروايات والقصص القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء علمية محددة بدقة تعبر عن كينونات وذوات إنسانية مرصودة من خلال رؤى فزيولوجية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، فإن القصة القصيرة جدا تتخلص من هذه الأسماء الشخوصية العلمية المعرفة ؛ فتصبح ذواتا مجهولة نكرة. وبالتالي، تتحول في عصر العولمة إلى كائنات معلبة ومستلبة ومشيأة ومرقمة بدون هوية ولا كينونة وجودية ، وتبقى أيضا بدون حمولات إنسانية. أضف إلى ذلك أن الإنسان في زماننا هذا قد امتسخ وتحجر، وصار كائنا كروتيسكيا متوحشا يخيف الآخرين ، وصار ذئبا لأخيه الإنسان كما قال الفيلسوف الإنجليزي هوبز.
وربما يكون هذا التنكير الشخوصي راجعا إلى تطابق الذات القصصية مع ذات المبدع التي أصبحت بدورها ذاتا مهمشة وممزقة وضائعة بين سراديب هذا الكون الشاسع الذي تقزمت فيه كثير من الذوات وتضآلت قيميا وحضاريا وماديا ووجوديا وثقافيا.
يقول رشيد البوشاري في قصة:" ملل" مستعملا مقياس التنكير وتغييب الشخصيات مختفيا وراء ضمير الغائب والرؤية من الخلف المحايدة:" انتهى منه العمل بعد الستين...فامتطى صهوة زمنه المتبقي، يسافر بعيدا عن فكرة الفراغ.
على أريكته المهترئة، جلس يراقب مركبه الرابض قرب الصخور والأمواج تتقاذفه...أحس بالحنين لأيام العمل، لكن عجزه وقوة الحياة جعلاه يكتفي بمشاهدة مركبه وهو يتمسك بحبل النجاة.
استسلم العجوز لرتابة الزمن، وقرر الموت في حضن الفراغ وعلى أريكة الملل".
ويقول عبد الدائم السلامي في حديثه عن الشخصيات وتركيزه على مقياس التنكير في مجموعتي مصطفى لغتيري وعبد الله المتقي:"إن قراءة متأنية لقصص الكتابين تظهر لنا أن شخصياتها تتنوع كثرة وأفعالا ومآلا، فقصص :" الكرسي الأزرق" تتوفر على مائة وتسع عشرة شخصية منها مائة وتسع شخصيات لاتحمل اسما علما وأغلبها معرف بالإضافة أو بالألف واللام ، ولكنها فاعلة في المغامرة مشاركة فيها ونسبتها 91.6% ، وعشر شخصيات عينها الكاتب بأسماء معلومة، غير أنها في الغالب الأعم جاءت باهتة عرضا في المغامرة قليلة الفعل فيها ونسبتها 8.4%، وتتضمن قصص:"مظلة في قبر" مائة وإحدى عشرة شخصية منها اثنتان وتسعون شخصية غير معرفة ولها فعلها في المغامرة ونسبتها 82.9% وتسع عشرة شخصية تحمل اسما علما وهي على غرار شخصيات قصص:"الكرسي الأزرق" يوردها الراوي دون أن سيند إليها أفعالا في الحكاية إلا نادرا بما يسمها بميسم المساعدة في سيرورة الحكاية لاغير، نسبتها 17.1%."
وحينما ترد هذه الشخصيات المغيبة النكرة فإنها ترد كضمائر إحالة مثل: خرج- عاد- فترجل، إنه....
أو ترد بأدوارها الاجتماعية مثل: الشرطي- المدرس- الأب- الجد- مدير البنك- الأستاذ- الطبيب- السائق...


4- مقياس التنكيت والتلغيز:


تتحول مجموعة من القصص القصيرة جدا إلى أحداث ملغزة أو من باب التنكيت والترفيه ليترك المبدع القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ. ويعني هذا أن قصص حسن برطال مثلا عبارة عن ألغاز معقدة تثير إشكاليات مفتوحة من الصعب بمكان أن نجد لها حلا بسهولة أو نبحث لها عن إجابات نهائية محددة شافية:" هاجر الابن...ثم هاجرت الأم...وتبعهما الأب...
ولما عادت الأسرة من المهجر وجدت البيت قد هاجر" .
ويقول في سياق آخر معتمدا على التلغيز:" بفضل المظلات والواقيات الشمسية....لم تعد
هناك رواية" رجال الشمس"
بل كل الرجال يعيشون في
الظل روايات..."
ونلاحظ في هذه القصص الملغزة الموجزة أن النص غير مكتمل يحتاج إلى توضيح وتفسير، لابد أن يملأ المتقبل فراغه بالجواب والتأويل حسب السياق المرجعي الذي يعيشه ذلك المتلقي الضمني.
ومن النكت المثيرة ماكتبه حسن برطال في مجموعته:" أبراج" :" تحول " مسمار جحا" من فكرة في رأسه
إلى " مسمار الكيف" في قدمه...
ليعرقل مسيرته الشيطانية"
ونستنتج أن التلغيز والتنكيت من المكونات الضرورية لانبناء القصة القصيرة جدا وانكتابها فنيا وجماليا ووظيفيا.


5- مقياس الاقتضاب:


إذا كانت الرواية الواقعية تسهب في الوصف تطويلا واستطرادا وحشوا كما عند بلزاك و فلوبير و ستاندال و موباسان ونجيب محفوظ وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع... فإن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات ، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، فلابد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء ، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا.
وفي هذه الحالة، لاينبغي للمبدع أن يستخدم في قصصه القصيرة جدا الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية ، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد كما نجد ذلك في الكثير من القصص القريبة إلى نفس الرواية والقصة القصيرة.
فإذا أخذنا هذا النموذج القصصي الذي يحسب على القصة القصيرة جدا ، فإننا نجده بسبب كثرة الأوصاف والنعوت والأحوال وأسماء التفضيل أقرب إلى مميزات القصة القصيرة والرواية من نفس القصة القصيرة جدا التي ينبغي أن ترتكز على الوصف المقتضب والموجز مع إلغاء الزوائد اللغوية المعيقة والأوصاف المسترسلة المسهبة، تقول الزهرة رميج في قصة:" النادل":


" تحول فضاء الفيلا الفخمة إلى حديقة تفوح منها روائح أغلى العطور وتينع فيها أجساد أجمل النساء.
كان الحفل في أوجه. إيقاع الموسيقى يزداد ارتفاعا والأجساد حرارة وعريا.عندما توقف النادل الشاب ذو البدلة الرسمية الأنيقة عند إحدى الموائد ، كانت صاحبة الجسد الممتلئ والصدر شبه العاري تحكي نكتة ماجنة. استمرت في الحكي بعدما سحبت نفسا عميقا من سيجارتها الفخمة ونفخت الدخان الذي ارتطم بوجهه وهو ينحني ليقدم لها الشاي...
تابع النادل طريقه على المائدة المجاورة.قالت إحدى الحاضرات وهي تكاد تنفجر من الضحك:
- ألم تخجلي وأنت تحكين النكتة أمام الرجل؟
أجابت وهي تنظر حولها في استغراب:
- أي رجل؟!"


ولا يعني هذا ألا يستخدم الكاتب النعوت والأوصاف ، بل عليه أن ينتقي الصفات الملائمة والمناسبة ، ويحتكم إلى مقياس التركيز والتدقيق، فيختار ما يخدم السياق النصي ، وينفع عقدة القصة ، ويوتر أزمتها ، ويثير القارئ، ويصدمه بشكل مربك ومدهش، ويفاجئه بوقع القصة، فتتحول النعوت والصفات المنتقاة إلى مؤشرات فاعلة وصادمة وواخزة كأننا أمام لقطة سينمائية مرعبة ومثيرة ومدهشة كما في قصة:"الخطيئة" لمصطفى لغتيري:


" بخطى واثقة، توجه " نيوتن" نحو شجرة...
توقف تحتها، وطفق يتأمل ثمارها...
أحست تفاحة بوجوده فارتعبت...
ألقى في روعها أنه آدم يوشك، ثانية، أن يرتكب فعل الخطيئة...
حين طال مكوثه، انتفضت التفاحة فزعة، فانكسر سويقها...
هوت على الأرض، واستقرت هامدة بالقرب من قدميه."


يلاحظ على هذه القصة القصيرة جدا أنها كبسولة مقتضبة من حيث الوصف والتصوير ، إذ ترد نعوتها القليلة لتشخص لنا حدثا دراميا متوترا، فأحسن الكاتب تشغيل منظومته الوصفية على الرغم من اقتضابها وإيجازها.


6- مقياس التكثيف:


نعني بتكثيف القصة اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة أو التمطيط في وصف الأجواء.
ونفهم من هنا، أن القصة لابد أن تخضع لخاصية الاختزال والتركيز ، وتجميع أكبر عدد ممكن من الأحداث والجمل في رقعة طبوغرافية محددة ومساحة فضائية قصيرة جدا. ولا يكون التكثيف هنا فقط على مستوى تجميع الجمل والكلمات، بل يكون أيضا على المستوى الدلالي، فتحمل القصة تأويلات عدة وقراءات ممكنة ومفتوحة.
ويعد التكثيف أيضا من أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ويشترط فيه الدكتور يوسف حطيني: " ألا يكون مخلا بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه."
وتستند معظم قصص مصطفى لغتيري إلى التكثيف القصصي والإيجاز في تفصيل الحبكة السردية عن طريق التركيز على استهلال وجيز وطرح للعقدة بشكل مركز وتبئير لنهاية قد تكون مغلقة أو مفتوحة تحتاج إلى التخييل القرائي والتأويل الاستنتاجي والتفاعل الضمني بين النص والمتلقي كما في قصة " بلقيس" التي يصور فيها الكاتب العطش الإنساني إلى الارتواء الشبقي والإيروسي بسبب الافتتان بغواية المرأة والإعجاب بجمالها الفينوسي الجذاب اشتهاء وحرقة:" في قصر سليمان، حينما كشفت بلقيس عن ساقيها المرمريتين، كان هناك في مكان ما، عين تختلس النظر، وترتشف بالتذاذ تفاصيل القوام البهي.
من مكانه، في إحدى شرفات القصر، رأى الهدهد ما حدث، فاعتصر قلبه الندم.
منذ ذلك الحين، أقسم الهدهد بأن لا ينقل مطلقا الأخبار بين البشر، وأن يلزم الصمت إلى أبد الآبدين" .


وتعتبر مجموعة" أبراج" لحسن برطال نموذج بارز لخاصية التكثيف والاختزال السردي بسبب قصر الجمل وكثرة الفواصل المفرملة.


7- مقياس الإضمار والحذف:


تستند القصة القصيرة جدا إلى مكون الإضمار والحذف باعتبارهما من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان كما هو معلوم عن طريق وجود نقط الحذف والفراغ الصامت وظاهرة التلغيز.
وهكذا، يستعمل كاتب القصة القصيرة جدا تقنية الحذف والإضمار من أجل التواصل مع المتلقي قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله لملء الفراغات البيضاء وتأويل ما يمكن تأويله، لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها لايمكن توضيحها أكثر من اللازم. ويستعين الكاتب غالبا بالإيجاز والحذف لدواع سياسية واجتماعية وأخلاقية ولعبية وفنية وأخلاقية. كما أن ذكر بعض التفاصيل الزائدة التي يعرفها القارئ تجعل من العمل الأدبي حشوا وإطنابا. لذلك، يبتعد الكاتب عن الوصف ويستغني في الكثير من النصوص عن الوقفات الوصفية والمشهدية التي قد نجدها حاضرة في القصة القصيرة العادية أو النصوص الروائية.
وتتحقق ظاهرة الإضمار فنيا في المجموعة القصصية عن طريق الحذف الدلالي وتشغيل علامات الترقيم الدالة على غياب المنطوق اللغوي والإبهام البصري والفراغ اللغوي كما يظهر ذلك بوضوح في توظيف النقط الثلاث كما في قصة " برتقالة " لمصطفى لغتيري التي يحاور فيها قصة أحمد بوزفور التي تجسد تحول سيارة أجرة إلى برتقالة عندما عاينت الشرطي في الطريق خوفا من بطش السلطة ومضايقاتها غير المشروعة:" صباحا فتحت باب الثلاجة...مددت يدي داخلها...تناولت برتقالة....متلذذا شرعت أقشرها...فجأة أمام ذهولي، تحولت البرتقالة إلى سيارة أجرة صغيرة حمراء...شيئا فشيئا استحالت دهشتي إعجابا بالسيارة...بتؤدة فتحت بابها الخلفي...انبثق منها الكاتب متأبطا أوراقه... مددت يدي نحوه...دون تردد سلمني إحداها...متلهفا قرأتها...إنها قصة سيارة أجرة، تحولت إلى برتقالة" .


وهذا يبين لنا مدى غلبة الطابع الذهني على قصص الكاتب؛ مما يجعل قصصه الرائعة تجمع بين المتعة والفائدة. أي إن الكاتب يصدر في قصصه عن معرفة خلفية وزاد ثقافي رمزي، وهذا ما يميز هذه المجموعة عن باقي المجموعات القصصية القصيرة الأخرى.
ومن أهم سمات القصة القصيرة جدا عند حسن برطال وجود ظاهرة الحذف والإضمار من خلال الإكثار من علامات الحذف والنقط المتتالية الدالة على حذف المنطوق واختيار لغة الصمت والتلميح بدلا من التوضيح .
هذا، ويكثر الكاتب من نقط الحذف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت بدلا من بلاغة الاعتراف والبوح التي نجدها كثيرا في الكتابات الكلاسيكية شعرا ونثرا. يقول الكاتب متوكئا على بلاغة الحذف ملمّحا إلى الموت وبشاعة القتل البشري:" قابيل دفن أخاه...الغراب دفن أخاه....والذي قتل بغداد دفن نفسه..." .


ويستلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال؛ لأن قصصه قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة يحتك فيها المتلقي بأسلاك قصصه القصيرة جدا، والتي على الرغم من حجمها الكبسولي تحمل في طياتها أسئلة كثيرة وقضايا إنسانية شائكة.

No comments:

Post a Comment