Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الثالث: معيار القراءة والتقبل:


1- مقياس الاشتباك:


من أفضل القصص القصيرة جدا تلك القصص التي تشتبك مع قارئها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة والحيرة الدلالية والتركيز على الوقع الجمالي والتحكم في المسافة الجمالية ومراعاة أفق التلقي وتخييبه وتأسيسه من جديد.
وتسهم قصص التلغيز مثلا في إثارة مخيلة القارئ، بينما تثير قصص التنكيت في إثارة وجدان القارئ وتحريكه سيكولوجيا. أما قصص السخرية والمفارقة فهي تساهم في دغدغة المتلقي واستفزازه ذهنيا وروحيا عبر الفكاهة والباروديا والتهجين الأسلوبي. بينما القصص المباشرة التقريرية فهي تبلد عقل القارئ، وتخلق معه علاقة تفاعلية سلبية تتسم بالرتابة وتقديم كل شيء جاهز على طبق من ذهب.


2- مقياس المفاجأة:


تعمل كثير من القصص القصيرة جدا على مفاجأة المتلقي وإثارته فنيا وجماليا ودلاليا ، واستفزازه عن طريق الانزياح والصورة الومضة، وإيقاعه في شرك الحيرة والتعجب اندهاشا وإرباكا وسحرا. وتكون هذه المفاجأة عند حدوث الوقع الجمالي وانتهاك المسافة الجمالية، وتخييب أفق انتظار القارئ، وخلخلة مفاهيمه وتصوراته المسبقة عن العمل.
كما تعمل بدايات هذه القصص ونهاياتها على مفاجأة المتقبل بعوالم إبداعية جديدة لم تكن في حسبانه، إذ تنماز عوالم القصة الواقعية والحلمية والافتراضية بخاصية التوهج والتنوير التشخيصي والمجازي.
وتمتاز قصص مصطفى لغتيري وغيره من مبدعي القصة القصيرة جدا باستعمال مكون المفاجأة لإدهاش المتلقي وإرباكه، وخلق لغة الغموض والتخييل ، وتخييب أفق انتظار المتلقي مع دفعه اضطرارا وقسرا نحو التخييل وافتراض الأجوبة الممكنة، وتشويق القارئ لملء فراغ النص وبياضاته المسكوتة .
يقول عزالدين الماعزي في قصته الملغزة " شكون":
" خرج من بيته على دقات الساعة العاشرة صباحا، طلبت منه الزوجة أن يوصل الخبز إلى الفران، رفع كتفه، فتل شاربه ومضى...
التصقت بساقه الصغرى دفعها خلفه وصفق الباب بعنف...
في العاشرة ليلا عاد ثملا، فتش في سترته، أدخل يده في جيب سرواله، عن حزمة المفاتيح التي...بدل عاود دون جدوى.
طويلا بحث...على إيقاع الضجيج الذي أحدثه أطلت الزوجة من كوة النافذة...قالت..."


فهذه القصة مفاجئة للمتقبل الذي تعود على النهاية الكلاسيكية المعطاة؛ لأن نهاية هذه القصة بقيت غير مكتملة تنتظر القارئ أن يملأ بياضها، وأن يتخيل كل الإجابات الممكنة والمفترضة.


3- مقياس الإدهاش:


تعد خاصية الإدهاش من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص كما يتضح ذلك في قصة: " السكوت من ذهب" التي التجأت إلى الإيجاز المقتضب واستعمال الحكمة الساخرة والفكاهة الواعية والنادرة الذهنية التي تستوجب من المتلقي استعمال الخيال والعقل وتشغيلهما من أجل تفكيك دوال المنطوق لبناء المفهوم:
" لكي يصبح الرجل ثريا،
قرر أن يصمت إلى الأبد".
ومن ثم، تهدف القصة القصيرة جدا إلى دغدغة المتقبل وجذبه لمشاركة الكاتب في انبناء نصه. لذا، يدهشه المؤلف بالبياضات الكثيرة، والفراغ الصامت ، والتلغيز المحير، والتنكيت الساخر، وقلب المواضعات المألوفة رأسا على عقب.

No comments:

Post a Comment