Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث الثالث: المعيار البلاغي:




* مقياس الأنسنة:


تنبني القصة القصيرة جدا على أنسنة الأشياء والجماد والحيوانات تشخيصا واستعارة ومفارقة وامتساخا. فتتحول الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جدا إلى أقنعة بشرية رمزية تحمل دلالات إنسانية معبرة. وبالتالي، تصبح عوامل سيميائية فاعلة في مسار القصة بأبعادها الإحالية والمرجعية والرمزية.
وهكذا، تتجاوز القصص القصيرة التي يكتبها مصطفى لغتيري الكتابة الحرفية التقريرية المباشرة، ويستعمل بدلا منها لغة التشخيص الاستعاري والمجاز المؤنسن الإحيائي والتشبيه المفسر والانزياح البلاغي وخطاب الترميز من أجل خلق لغة إيحائية شاعرية مؤثرة قائمة على خلخلة المحور الاستبدالي في تقاطعه مع المحور النحوي. ومن ثم، يبحث الكاتب عن الوظيفة الشعرية والمحكي الشاعري لتقريب القصة من الشعر ومن الخطابات القائمة على لغة المشابهة والمجاورة.
ومن الأمثلة النصية على الخطاب البلاغي المنزاح الذي يطفح بالشاعرية المفلقة والأنسنة الاستعارية نصه:" غيمة":


" من أعماق المحيط، انطلقت غيمة داكنة، تبحث عن مكان يستحق ماءها... تواطأت الريح معها، فسحبتها نحو اليابسة.
فجأة لمحت الغيمة قطعة أرض يابسة، قد علا الاصفرار ذؤابات نباتاتها... مبتهجة هرولت الغيمة نحوها، عازمة على ربها...
حين أشرقت عليها...جاهدة حاولت سقيها.. لكنها متأسفة اكتشفت أن طول الرحلة أنهكها، فأضحت سحابة عجفاء شاحبة."
وتتحول الحيوانات في القصص الفانطاستيكية إلى أقنعة رمزية قائمة على الأنسنة والتشخيص الاستعاري والمفارقة الرمزية الموحية كما في قصص السعدية باحدة التي تثور فيها على واقعها البشري المنبطح الذي انحطت فيه القيم الأصيلة واندثرت، وتحول فيه الكائن الإنساني إلى حيوانات لادغة، فامتسخ فيه امتساخ الدناءة والحقارة كما في قصة"عقارب"، وقصة" أين المفر؟"، وقصة "خيبة"، وقصة"نزعة قردية"، وقصة " قارض" التي تتحول فيها الكائنات الآدمية إلى فصيلة القوارض الجشعة:


" هو جرذ من فصيلة القوارض، أصيب بالنهم...أخذ
يقرض...يهرش...يقضم...ينهش...
يقرض ليل نهار، خوفا أن تطول أسنانه، فتصير أكبر
من هيئته، إلى أن أصيب بالغثيان، صار يتقيأ على
موائد الجماعات والجمعيات والتجمعات...
ولا يزال يقرض...ينهش...يقصم... يهرش... إلى أن أصيب بالإسهال...
هو الآن يمارس إفراغ حمولته في مراحض الإذاعات
الشاشات والساحات العمومية...لكي يظل يقرض...
يهرش...يقضم....ينهش...فهو جرذ من فصيلة القوارض
...أصيب بالنهم...أخذ يقرض...."


وعليه، فالأنسنة كما يرى الكثير من الدارسين ونقاد القصة القصيرة جدا أنها من الشروط المميزة لهذا الفن السردي الجديد أو المستحدث في ساحتنا العربية الثقافية.


* مقياس الترميز:




من المعلوم أن القصة القصيرة جدا تشترك مع باقي الأجناس الأدبية في خاصية الترميز وتحول لغة القصة ومعاجمها السردية إلى دوال رمزية وأقنعة سيميائية وإحالات دالة ومؤشرات نصية مفتوحة.
وهكذا، تتسم قصص مصطفى لغتيري مثلا بالخاصية الرمزية التجريدية عبر استخدام لغة العلامات والإشارات السيميائية والدوال الموحية الحبلى بالمدلولات المنطوقة التي تستنبط عبر سياقاتها اللغوية والنصية والذهنية وتستكشف عبر صورها البلاغية القصيرة جدا.
وإليكم نصا قصصيا طافحا بالرمزية التجريدية والانبطاح البشري والامتساخ الحيواني الدال على انهيار القيم الأصيلة وتساقط المثل العليا في العالم البشري المنحط كما في قصة " قرار" :" كان كلبا أنيقا معتزا بذاته... لمح ذات صباح كلبة جميلة، فوقع في حبها..طاردها مدة طويلة، دون أن يقضي منها وطره.
ذات مساء، رأى الكلبة تجامع كلبا بشكل فاضح... اغتم، فقرر، منذ ذلك الحين، أن يصبح ناسكا."
فالحيوانات المذكورة في هذه القصة القصيرة جدا ماهي في الحقيقة سوى أقنعة رمزية تحيل على الكائنات الآدمية الممتسخة ، والذوات البشرية الكلبية التي أصبحت عبر أفعالها المشينة مخلوقات حيوانية جحيمية ملعونة .
وقد تتنوع الرموز في القصة القصيرة جدا إلى رموز طبيعية ورموز فنية ورموز فانطاستيكية ورموز مكانية ورموز لغوية ورموز تاريخية ورموز أسطورية ورموز صوفية ورموز أيقونية ورموز سيميائية.


* مقياس الانزياح:


يعتبر الانزياح من أهم شروط القصة القصيرة جدا ، و تشترك فيه مع باقي الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح. وغالبا ما يتشخص الانزياح في خلخلة التركيب والمعنى، وتدمير الدلالة المنطقية ، و الخروج عن معايير التفضية البصرية المألوفة، مع تخريب الانسجام الإيقاعي.
وهكذا، نجد كاتب القصة القصيرة جدا يشغل أحيانا جملا مركبة تركيبا مألوفا يحترم الرتبة النحوية، بيد أنه تارة أخرى يخلخل الرتبة ويوظفها بطريقة شاعرية انزياحية يتقدم فيها الحال عن الفعل، أو الاسم عن الفعل، أو شبه جملة عن الفعل قصد تحقيق الوظيفة الشعرية السردية واستحصال التخصيص الدلالي و خلق التبئير الموضوعي:


- مخمورا دخل الطفل إلى الفصل؛
- وفي أذن الطفل همست حنان؛
- يقينا أنني كنت أحلم.


ويخضع الكاتب أيضا جمله لخاصية الانزياح النحوي و تخريب رتبة الجملة تقديما وتأخيرا كما في قصة " وحدة ":


" وحيدا ظل العصفور في القفص.. كئيبا لا يسمع له صوت...فكر الرجل ، فاشترى له عصفورة تؤنسه..
حين حلت الضيفة الجديدة، أصبح العصفور نشيطا، لايتوقف عن الحركة، وامتلأ البيت بوصوصاته المسترسلة..
صباحا تأمل الرجل العصفورين، فرأى منظرا بديعا، أدهشه...
لحظتها فقط، أحس بأنه وحيد بشكل فظيع."


ومن الشواهد النصية التي تبين هيمنة الجمل البسيطة في القصيرة جدا قصة الموت:" على هيئة رجل ، تقدم الموت نحو شاب، يقتعد كرسيا على قارعة الطريق...جلس بجانبه، ثم ما لبث أن سأله:
- هل تخاف الموت؟
- واثقا من نفسه، أجاب الشاب:
- لا، أبدا، إن لم يمت المرء اليوم، قطعا سيموت غدا.
بهدوء أردف الموت:
- أنا الموت... جئت لآخذك.
ارتعب الشاب...انتفض هاربا...لم ينتبه إلى سيارة قادمة بسرعة مجنونة، فدهسته".


وعلى أي، فالانزياح من أهم شروط وخاصيات القصة القصيرة جدا، وبه تحقق لنفسها الثراء الإبداعي والشاعرية الحقة ، وروعة التلقي والتقبل.




* مقياس الفانطاستيك:


يعد الفانطاستيك من أهم سمات القصة القصيرة جدا ومن أهم شروطها الخارجية . وبالتالي، ينبني على العجيب والغريب على حد سواء، وقد يثير الفانطاستيك الخوف والاستغراب أو الإعجاب والاندهاش.
وهكذا، نجد القصة القصيرة جدا عند مصطفى لغتيري تشغل خاصية الفانطاستيك من خلال التأرجح بين الغريب والعجيب،واستعمال خطاب التحولات الخارقة التي تعبر عن تداخل الوعي واللاوعي، وتنافر الواقع واللاواقع، والمألوف واللامألوف لتشبيك عالم الغرابة والفانتازيا والامتساخ البشري والحيواني والإشهاد على انبطاح الإنسان أخلاقيا، وانحطاط، المجتمع البشري الذي علبته القيم الكمية والمعايير الرقمية والمادية. يقول مصطفى لغتيري في قصته:" تقمص: " أبدا لم تنطل حيلة الرداء الأحمر على الثور...
أمام اندهاش الجميع، قصد المصارع، وأصابه إصابة قاتلة...
كان الثور يتقمص روح خفاش، قادر على تحديد أهدافه، بالتقاط الذبذبات".
تصور هذه القصة وحشية الإنسان وتحوله من كائن آدمي إلى مجرم يسفك دماء المخلوقات الضعيفة بدون شفقة ولا رحمة ليتلذذ بانتصاره الوهمي الزائف.


*مقياس الإيحاء:


تتسم مجموعة من القصص القصيرة جدا بخاصية الشاعرية وبلاغة الإيحاء ولغة المجاز والتغريب. وترد القصص في شكل قصائد نثرية سماها البعض " أقصودة"؛ لأنها تجمع بين المحكي السردي والخطاب الشعري المتوهج، وقد ترد الإيحائية البلاغية عبر أسطر شعرية موحية ومعبرة تذكرنا بقصيدة النثر:


"اقتلعوا ضرسه وعلموه كيف يأكل بعينيه....
اقتلعوا لسانه وعلموه كيف يكلم الناس رمزا...
لكنهم أبقوا على شفتيه...ليقبل يد الرئيس..."


فهذه الطريقة في الكتابة تشبه القصيدة الشعرية المنثورة الموحية برموزها المنفتحة ، وشاعريتها الخلاقة ، ووظيفتها الشعرية التي يتقاطع فيها المحور الاستبدالي والمحور التركيبي.
وتعتبر مجموعة سعيد بوكرامي:" الهنيهة الفقيرة" زاخرة بالإيحاء الشاعري ونابضة بالصور القصصية الحبلى بمتعة الإبداع الشعري الرائع.


* مقياس الغموض:


تميل بعض القصص القصيرة جدا إلى تشغيل خاصية الغموض الفني والتغريب الإبداعي إلى درجة قصوى من أجل خلخلة عملية التقبل لدى المتلقي العادي وإرباك مفاهيمه الجمالية المألوفة واستبدالها بمفاهيم أكثر حداثة و جدة وجرأة.
ومن النماذج التي تجسد غموض الكتابة القصصية القصيرة جدا مانلفيه عند سعيد بوكرامي من حيث التباس علاماته السردية وتوغلها في التجريد والرمزية الموحية المنفتحة على عوالم نصية ممكنة من الصعب الإحاطة بها وتطويقها دلاليا ومقصديا:" كانوا ثلاثة ورابعهم النحل
تحدثوا عن البحر عن الهجرة وعن الصمت
قطرات صغيرة تلتقي في الليل
لأن الربيع مات ولأن الأزهار ماتت
جاء النحل إلى دخان المقاهي إلى طاولات الموت
يحدق فيها بيأس، يختار عنق الزجاجة وينتحر"


وهكذا نلاحظ أن مرحلة التجريب في القصة القصيرة جدا تعتمد على خلخلة النسق السردي الكلاسيكي التقليدي ، وتنتقل من الإيقاع الكرونولوجي التعاقبي نحو كتابة شعرية رمزية إيحائية تجمع بين المزج بين الأجناس الأدبية وتوظيف الغموض و الانزياح السردي الحداثي.


وتتسم قصص مصطفى لغتيري أيضا بالرمزية والتجريد في التشكيل اللغوي والدلالي؛ مما أوقع كثيرا من قصصه في الغموض الذي يثير صعوبات كبيرة على مستوى التقبل بسبب الانزياح الذهني وكثرة الإضمار الدلالي وإيحائية المستنسخات والإحالات التناصية كما يظهر ذلك في قصة "الخطيئة" التي تشير إلى خوف الطبيعة من الإنسان الذي لا يعرف سوى العنف والإجرام وارتكاب الأخطاء في حق البراءة والطفولة والطبيعة وتدمير المكان:" بخطى واثقة، توجه " نيوتن" نحو شجرة...
توقف تحتها، وطفق يتأمل ثمارها...
أحست تفاحة بوجوده فارتعبت...
ألقي في روعها أنه آدم يوشك، ثانية، أن يرتكب فعل الخطيئة...
حين طال مكوثه، انتفضت التفاحة فزعة، فانكسرت سويقها...
هوت على الأرض، واستقرت هامدة بالقرب من قدميه". .


وتبلغ الرمزية منتهاها عندما يلتجئ الكاتب إلى التفلسف والتجريد الذهني كما في قصة "المرآة" التي تعبر عن الفراغ والخواء الإنساني وانقلاب المواضعات الزمكانية وتغير الإنسان وتعدد وجوهه في صور مفارقة متعددة ومتناقضة. ومن ثم، صارت المرآة تشكو من الإنسان الذي تغير ولم يعد على صورته الحقيقية، فبدأت ترى في وجهها البشاعة والقبح الآدمي والزيف البشري، أي إنها تعلن موت الإنسان الذي تشيأ بفعل غياب القيم الكيفية ورجحان القيم التبادلية الكمية والمادية:" حين تطلعت إلى المرآة، لتتأمل وجهك فيها، أذهلك فراغها. مرتبكا تقهقرت إلى الوراء، فركت عينيك جيدا. من جديد حملقت في صفحتها الصقلية. بصلف تمدد الخواء أمامك.
بعد هنيهة، تبينت حقيقة الأمر: المرآة كانت تتأمل وجهها فيك".
وهكذا، نستنتج أن الغموض مقوما ثانويا من مقومات القصة القصيرة جدا، وتشترك فيه مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى.


* مقياس التجريد:




يعد التجريد من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا، وينتج عن تجاوز الواقع نحو اللاواقع، وخلخلة المقاييس العقلية المألوفة بمقاييس أكثر غرابة وانتهاكا.
ويعتبر سعيد بوكرامي من أهم كتاب القصة القصيرة جدا الذين نحوا منحى تجديديا ، وذلك بتخريب النسق السردي الكلاسيكي وتشغيل خاصية الاستعارة والتشخيص البلاغي. ويعمد الكاتب بعد ذلك إلى استخدام التجريد بكثرة من خلال تشغيل الرموز الموحية واللغة الشعرية الزئبقية التي تنفلت من كل مواضعات الاصطلاح، حتى إن نصوص الكاتب تتحول إلى لوحات تشكيلية بصرية مجردة تختلط فيها الألوان الباردة مع الألوان الحارة. ومن هنا، يبدو الكاتب في مجموعته المتميزة الرائعة" الهنيهة الفقيرة" شاعرا مبدعا وقصاصا محنكا ورساما متمكنا من أدواته الفنية والجمالية، يحسن التعبير والتشخيص والتلوين وتكثيف الانفعالات وتجسيدها بجمل وصفية مقتضبة موحية مقتصدة في لسعاتها التعبيرية ولدغاتها الفنية.

No comments:

Post a Comment