Wednesday, January 11, 2012

كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

المبحث السادس: المعيار الدلالي:


على الرغم من قصر حجم القصة القصيرة جدا فإنها قادرة على رصد القضايا الجادة والمصيرية وطرح الأسئلة الكبيرة كما يقول نجيب العوفي في مقال بعنوان:" القصة القصيرة والأسئلة الكبيرة" ، إذ تناولت في مسارها قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية ومحلية وجهوية ووطنية وقومية وإنسانية علاوة على مناقشتها لقضايا الذات والواقع الموضوعي، والتركيز على القضايا الشائكة كالعولمة والحروب وواقع المهمشين واللاجئين والمشردين، وتصوير الصراع العربي الإسرائيلي، ورصد الاستبداد في علاقته بالعدالة الاجتماعية ومنظمة حقوق الإنسان، وتصوير جدلية الذكورة والأنوثة، وتجسيد أزمات العالم وتشخيص أدوائه وطرح مقاربات العلاج، والانفتاح على العالم الرقمي والتقاط صور الامتساخ البشري واستلابه قيميا وحضاريا وأخلاقيا ووجوديا.
ينبني المعيار الدلالي على مجموعة من المحكات والمقاييس التي يمكن الاستعانة بها من أجل بناء القصة القصيرة جدا، ومن هذه المقاييس الدلالية نذكر:


* مقياس التشخيص:


على الرغم من كون القصة القصيرة صغيرة الحجم ، فإنها تطرح أسئلة كبرى جادة وجدية ومصيرية وهامة. لذا، يمكن الحديث عن أنواع ثلاثة من التشخيص:


- التشخيص الذاتي:


من أهم مميزات القصة القصيرة جدا على المستوى الدلالي أنها شخصت الذات الإنسانية سواء أتعلقت بذات المبدع أم بالذات الغيرية تشخيصا إيجابيا وسلبيا، لكنها كانت في الغالب تنقل لنا الذات في انكسارها وانبطاحها وذوبانها وجوديا وثقافيا وحضاريا وقيميا وأخلاقيا، كما صورت لنا الذات وهي تتصارع مع نفسها تمزقا وتآكلا وانهيارا ، كما كانت تتصارع مع الواقع الموضوعي في تناقضاته الجدلية.
لقد عكست القصة القصيرة جدا سيزيفية الإنسان وعذابه التراجيدي وسقوطه المأساوي وانتظاره اللامعقول. فتعددت الرؤى الفلسفية تجاه الذات التي أصبحت مرقمة كما عند فاطمة بوزيان في مجموعتها:" ميرندا"، أو ذاتا ممتسخة كما في مجموعة :" وقع امتداده ... ورحل" ، أو ذاتا منهزمة متقاعسة عن النضال والجهاد والكفاح كما عند وفاء الحمري في مجموعتها:" بالأحمر الفاني" وعند الحسين زروق في مجموعته: " الخيل والليل" . وصارت أيضا ذاتا اجتماعية محبطة كما في مجموعة:" عندما يومض البرق" للزهرة رميج، أو ذاتا متحجرة افتقدت إنسانيتها كما عند عبد الحميد الغرباوي في مجموعته القصصية: " أكواريوم"، أو ذاتا شبقية كما عند هشام بن الشاوي في مجموعته :" بيت لاتفتح نوافذه" ، و عبد الله المتقي في مجموعته: " الكرسي الأزرق"، أو ذاتا شعبية مهشمة كما عند حسن برطال في مجموعته " أبراج"، أو ذاتا فقدت براءتها وطفولتها كما عند عزالدين الماعزي في مجموعته:" حب على طريقة الكبار"، أو ذاتا تعاني من التضخم الذهني كما في مجموعة مصطفى لغتيري:" مظلة في قبر"...


- التشخيص الموضوعي:


تناولت القصة القصيرة جدا مجموعة من القضايا الموضوعية الجادة كالقضايا المحلية والقضايا الجهوية والقضايا الوطنية والقضايا القومية التي تتعلق بمشاكل الأمة، كما تناولت هذه القصة الجديدة قضايا كونية وعالمية وإنسانية وبيئية. كما حملت هذه القصص رؤى رومانسية وواقعية وطبيعية وسريالية ووجودية وحدسية وصوفية وعبثية وإسلامية.
هذا، وقد عبرت هذه القصص المستحدثة عن مجموعة من القيم الإنسانية السلبية والإيجابية من خلال رؤى فلسفية تختلف من مبدع إلى آخر.
ومن أهم القضايا الكونية التي شخصتها القصة القصيرة جدا ظاهرة العولمة التي أصبحت امتساخا حضريا وأخلاقيا ، إذ نجد الكاتبة المغربية فاطمة بوزيان في آخر مجموعتها :" ميريندا" تثور صارخة على العولمة التي غيرت مجموعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية في مجتمعنا العربي؛ فألقت شبابنا بين أحضان التغريب والانبهار والاستلاب والتقليد الأعمى للغرب في القشور السطحية والموضات التافهة والتقليعات الشكلية بدون تفكير أو روية:


" كلما هم بالكتابة تكسر الطباشير أو أصدر صريرا يقشعر له ما تبقى في رأسه من شعر...اغتاظ والتفت إلى يمينه قائلا:
- اتفو، في زمن العولمة يسلموننا أرخص طبشور!
أتم كتابة الدرس بصعوبة... التفت إلى تلاميذه وجد الذكور يلعبون بأقراط آذانهم والإناث مشغولات بأقراط سراتهن..التفت إلى يساره وبصق على العولمة."


و خصص الحسين زروق مجموعته القصصية " الخيل والليل" للتنديد بالحرب تخطيبا وتمطيطا من خلال استحضار مآسي واقع الأمة العربية الإسلامية الذي يئن من وطأة الاستعمار، ويتألم من بطش الغطرسة الصهيونية، ويعاني من تشريد الشعب الفلسطيني ومن تمزق العرب إربا إربا كما في قصة:


" الابن: أماه أين أبي؟
الأم: مسافر ياولدي.
الابن: ومتى سيعود أماه؟
الأم: لاأدري ياولدي.
وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
الأم: لاأدري ياولدي.
بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
الأم: ربما نفعل يا ولدي.
الابن: ومتى يا أماه؟
الأم: لا أدري يا ولدي.
وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية"


ويلاحظ أن الكاتبة المغربية وفاء الحمري في أضمومتها القصصية تنبع من مستند قومي إنساني حيث تتعاطف مع القضية الفلسطينية تعاطفا وجدانيا وانفعاليا وأخلاقيا، فتلتقط تفاصيل الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني ، ثم تنقل لنا ما يمارس ضده من حروب وحشية ومجازر همجية باسم الاحتلال والتنكيل والإقصاء كما في قصة"أنقاض" .
كما تصور لنا الكاتبة بريشتها المختزلة مشاهد الطفولة المغتصبة، فتعكس لنا الموت الفلسطيني المترنح بسبب كثرة القتلى وتكدس جثث ضحايا الاستشهاد كالأكوام المفعمة بالمأساة والتراجيديا القاتلة التي تتجادل فيها ثنائية الأرض والسماء أو ثنائية الدنيا والآخرة:


" جلس شيخ على ربوة من أنقاض بعد انفجار صاروخ...
مر به صبي...
أين أهلك ياعمي؟
هنا تحت
وأهلك يا صغيري؟
هناك فوق في السماء
نظر إلى بعضهما البعض بأسى
وبقي السؤال الآخر معلقا بين السماء والأرض"


وعليه، فالقصة القصيرة جدا تناولت كل المواضيع اليومية بمافيها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ، كما ركزت أيضا على المواضيع المحلية والجهوية والوطنية والقومية والإنسانية والكونية.
ومن ثم، فقد اكتفت بعض القصص القصيرة جدا بالوصف وتشخيص الأدواء والعيوب والنواقص، بينما راحت أخرى لتقدم حلولا كان تطبيقها يتراوح بين الكائن والممكن والمستحيل.


- التشخيص الميتاسردي:


لم تكتف القصة القصيرة جدا بتشخيص الذات والواقع فقط، بل شخصت كينونتها الفنية والجمالية من خلال طرح أسئلة جوهرية وميتاسردية تتعلق بدواعي انكتابها وطرائق إبداعها، ووظيفتها في المجتمع ، والبحث عن ماهيتها النظرية والتطبيقية ، ورسالتها في الحياة. أي إن القصة القصيرة جدا بدأت أيضا تفكر في نفسها على غرار الأجناس الأدبية والفنون الأخرى كالرومانيسك بالنسبة للرواية ، والميتاقصة بالنسبة للقصة القصيرة، والميتامسرح بالنسبة للمسرح ، والسينما داخل السينما. واليوم ، أصبحنا نتحدث عن قصصية القصة القصيرة جدا أو الميتاميكروسردي.
وإليكم بعض النماذج التي رصدت فيها القصة القصيرة جدا نفسها ووضعية انكتابها وكيفية تقبلها من الذات المبدعة والذات القارئة. يقول حسن البقالي في قصته:" دمى روسية":


" لاشك أن الأمر يتعلق بانتهاك فادح لروح الإبداع ، أن أسود الصفحات، لالشيىء، إلا لأن الناشر ينتظر مني العمل الجديد الذي وعدت به في لحظة حماسة زائدة.
لذلك، وعوض الخمسمائة صفحة الموعودة، سأكتفي برواية من مائة صفحة، بل بقصة قصيرة من ثلاث صفحات، وفي النهاية، لم لا أحصر اهتمامي في قصة قصيرة جدا من سطر واحد تكون كالتالي:
" أخيرا...كتبت قصة قصيرة جدا".
ونورد في هذا الصدد نموذجا آخر لفاطمة بوزيان بعنوان:" قصص قصيرة جدا" فيه سخرية ومفارقة إبداعية ورمزية موحية:


" قرأت عليهما كل ذلك
قال:
- إنها تشبه بوكاديوس
قالت:
- تشبه النسكافيه
قال:
- تشبه الكليبات
قالت:
- تشبه
قلت
- نسميها ميريندا ونرتاح"
ومن هنا، نجد أن القصة القصيرة جدا قد شخصت الذات الإنسانية في آلامها وآمالها، كما شخصت الواقع في سلبياته وإيجابياته، ولم تنس أن تشخص مكوناتها الفنية والجمالية نقدا و تساؤلا على المستوى الميتاسردي.


2- مقياس الجرأة:


تتميز القصة القصيرة جدا بخاصية الجرأة في تناول المواضيع المحرمة كالتقاط المواضيع الجنسية وتكسير الطابوهات الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية. أي إن هذا الفن المستحدث بدأ يتغلغل في خبايا الذات الإنسانية شعوريا ولاشعوريا من أجل تشخيص المكبوتات وتعرية الجسد ، كما استطاعت هذه الكبسولة الجديدة أن تفضح السياسة المطلقة لحكام هذا الزمان ،وتقف في وجه الذين يستغلون الدين نفاقا ورياء وتخديرا، كما سلطت ريشتها الإبداعية على كل المشاكل الواقعية التي عاشها الإنسان في تفاصيلها الجزئية.
هكذا، نجد الكاتب المغربي هشام بن الشاوي يستهل أضمومته السردية الجديدة :" بيت لاتفتح نوافذه..." باستدعاء مجموعة من المشاهد الإيروسية التي تعبر عن ذكريات السارد الغرامية ومغامراته الماجنة مع الجنس الآخر، فيلتقط الراوي صورة عشيقته الولهانة بشعره وحماقاته الإبداعية ؛ مما سيدفع به المآل إلى افتراس صهوتها والركوب بين أحضانها لإشباع غرائزه الشعورية واللاشعورية من أجل إثبات ذاته الوجودية وفحولته الرجولية: "تحت جنح الظلام، لاحت لي واقفة أمام باب البيت... بتنورتها القصيرة، وأصباغها الفاقعة... جذبتها من يدها، دون أن أنبس بكلمة....
لم أكن أعرف لم لم أكن استلطفها، ولم أفكر في يوم من الأيام أني سأمتطي صهوتها..هي، أول امرأة أدخلها إلى حياتي، وأول امرأة تدخل جحري...
اجتازت عتبة حجرتي، وفي عينيها سرور، وكأنما تدخل معي إلى معبد... فهي الوحيدة في هذا الحي المقبري، التي تعترف بموهبتي، وتقرأ أشعاري...وكم من مرة ضبطتها متلبسة باختلاس النظر إلي، وأنا أكتب حماقاتي، وهي تنشر الغسيل، فإذا التقت نظراتنا، ندت عنها آهة حارقة، وعضت على شفتها السفلى..أهي مغرمة بي؟"
ويبالغ الحسين زروق كثيرا في نقد الأنظمة السياسية المستبدة الجائرة داعيا إلى استبدالها بالنظام السياسي الإسلامي ولو أدى الأمر إلى تغييرها بالدعوة إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله: "بدأت الحرب...أول المهاجرين كانوا من فئة المثقفين حاملي لواء الكلمة... سخر منهم الشعب...هو كان يعرف أن ثرثرتهم لا تعني شيئا من الشعب وفي غمرة الحرب انبثق مثقفون جدد... صفق الشعب لا لأنهم يستحمون كل يوم ألف مرة ولكن لأنهم يكتبون بالبندقية."
و ينتقد الكاتب أيضا في قصصه القصيرة جدا نظام الحكم الجائر بسبب استبداده وقمعه للحريات الإنسانية الخاصة والعامة، وتماديه في اغتصاب حقوق المواطن الطبيعية والمكتسبة باسم قانون الأهواء والرغبات والمصالح:


" التلميذ: أستاذ...أستاذ...لماذا نرسم الحدود بين دول حضارتنا؟
الأستاذ: لاستنفاذ الأسلاك الشائكة.
التلميذ: ولماذا الأسلاك الشائكة؟
الأستاذ: لأنها تسهم في خلق فرص الشغل.
التلميذ: ولماذا فرص الشغل؟
الأستاذ: حتى لاتقوم الفوضى في البلاد.
التلميذ: ولماذا الفوضى؟
الأستاذ: للإطاحة بالنظام.
التلميذ: ولماذا النظام؟
الأستاذ: لأنها رأس الحربة.
التلميذ: (يفكر ثم يسأل) ألا يمكن كسر هذه الحربة؟
الأستاذ: ( ينظر عن يمينه وعن شماله ويتلعثم) أش ش ش."


وعليه، فالجرأة هي أهم خاصية من خصائص القصة القصيرة جدا، وتنضاف كقيمة جمالية إلى المستوى الدلالي.

No comments:

Post a Comment