Saturday, August 4, 2012

القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد بقلم الدكتور جميل حمداوي

الدكتور جميل حمداوي 
القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد بقلم الدكتور جميل حمداوي 
القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد الدكتور جميل حمداوي 
تمهيـــد أولـــــي: ظهرت القصة القصيرة في العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة والمتشابكة التي أقلقت الإنسان وما تزال تقلقه وتزعجه ولا تتركه يحس بنعيم التروي والاستقرار والتأمل، ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا والابتعاد عن كل ما يتخذ حجما كبيرا أو مسهبا في الطول نسبيا كالقصة القصيرة والرواية والمقالة والدراسة والأبحاث الأكاديمية.... كما لم تترك المرحلة المعاصرة المعروفة بزمن العولمة والخوصصة والاستثمارات الاقتصادية الهائلة والتنافس إنساننا الحالي ولاسيما المثقف منه مستقرا في هدوئه وبطء وتيرة حياته ، بل دفعته إلى السباق المادي والحضاري والفكري والإبداعي قصد إثبات وجوده والحصول على رزقه؛ مما أثر كل هذا على مستوى التلقي والتقبل والإقبال على طلب المعرفة، فترتب عن ذلك ظاهرة العزوف عن القراءة ، وأصبح الكتاب يعاني من الكساد والركود لعدم إقبال الناس عليه، كما بدأت المكتبات الخاصة والعامة تشكو من الفراغ لغياب الراغبين في التعلم وطلبة القراءة والمحبين للعلم والثقافة. هذا، ولقد تبلور هذا الجنس الأدبي الجديد- على حد علمي- في العراق ودول الشام وبالضبط في سورية وفلسطين، ودول المغرب العربي وخاصة في المغرب وتونس على حد سواء. إذاً، ماهو هذا الجنس الأدبي الجديد؟ وماهي خصائصه الدلالية والفنية والتداولية؟ وماهي أهم النماذج التي تمثل هذا المولود الجديد في عالمنا العربي؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في مقالنا هذا. 1- تعريف القصة القصيرة جدا: القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. 2- تعدد التسميات والمصطلحات: أطلق الدارسون على هذا الجنس الأدبي الجديد عدة مصطلحات وتسميات لتطويق هذا المنتوج الأدبي تنظيرا وكتابة و الإحاطة بهذا المولود الجديد من كل جوانبه الفنية والدلالية، ومن بين هذه التسميات: القصة القصيرة جدا، ولوحات قصصية، وومضات قصصية، ومقطوعات قصيرة، وبورتريهات، وقصص، وقصص قصيرة، ومقاطع قصصية، ومشاهد قصصية، و الأقصوصة، وفقرات قصصية، وملامح قصصية، وخواطر قصصية، وإيحاءات،والقصة القصيرة الخاطرة، و القصة القصيرة الشاعرية، والقصة القصيرة اللوحة.، والقصة اللقطة، والكبسولة، والقصة البرقية، وحكايات... وأحسن مصطلح أفضله لإجرائيته التطبيقية والنظرية، و أتمنى أن يتمسك به المبدعون لهذا الفن الجديد وكذلك النقاد والدارسون، هو مصطلح القصة القصيرة جدا ؛ لأنه يعبر عن المقصود بدقة مادام يركز على ملمحين لهذا الفن الأدبي الجديد وهما: قصر الحجم والنزعة القصصية. 3- موقف النقاد والدارسين من القصة القصيرة جدا: يلاحظ المتتبع لمواقف النقاد والدارسين والمبدعين من جنس القصة القصيرة جدا أن هناك ثلاثة مواقف مختلفة وهي نفس المواقف التي أفرزها الشعر التفعيلي والقصيدة المنثورة و يفرضها كل مولود أدبي جديد وحداثي؛ مما يترتب عن ذلك ظهور مواقف محافظة تدافع عن الأصالة وتتخوف من كل ماهو حداثي وتجريبي جديد، ومواقف النقاد الحداثيين الذين يرحبون بكل الكتابات الثورية الجديدة التي تنزع نحو التغيير والتجريب والإبداع والتمرد عن كل ماهو ثابت، ومواقف متحفظة في آرائها وقراراتها التقويمية تشبه مواقف فرقة المرجئة في علم الكلام العربي القديم تترقب نتائج هذا الجنس الأدبي الجديد، وكيف سيستوي في الساحة الثقافية العربية ، وماذا سينتج عن ظهوره من ردود فعل، ولا تطرح رأيها بصراحة إلا بعد أن يتمكن هذا الجنس من فرض وجوده ويتمكن من إثبات نفسه داخل أرضية الأجناس الأدبية وحقل الإبداع والنقد. وهكذا يتبين لنا أن هناك من يرفض فن القصة القصيرة جدا ولا يعترف بمشروعيته لأنه يعارض مقومات الجنس السردي بكل أنواعه وأنماطه، وهناك من يدافع عن هذا الفن الأدبي المستحدث تشجيعا وكتابة وتقريضا ونقدا وتقويما قصد أن يحل هذا المولود مكانه اللائق به بين كل الأجناس الأدبية الموجودة داخل شبكة نظرية الأدب. وهناك من يتريث ولا يريد أن يبدي رأيه بكل جرأة وشجاعة وينتظر الفرصة المناسبة ليعلن رأيه بكل صراحة سلبا أو إيجابا. وشخصيا ، إني أعترف بهذا الفن الأدبي الجديد وأعتبره مكسبا لاغنى عنه، وأنه من إفرازات الحياة المعاصرة المعقدة التي تتسم بالسرعة والطابع التنافسي المادي والمعنوي من أجل تحقيق كينونة الإنسان وإثباتها بكل السبل الكفيلة لذلك. 3- أعمال منشورة ولقاءات حول القصة القصيرة جدا: انصبت دراسات كثيرة على فن القصة القصيرة جدا بالتعريف والدراسة والتقويم والتوجيه، ومن أهمها كتاب أحمد جاسم الحسين"القصة القصيرة جدا/1997م"، وكتاب محمد محيي الدين مينو" فن القصة القصيرة، مقاربات أولى/2000م"، دون أن ننسى الدراسات الأدبية القيمة التي دبجها كثير من الدارسين العرب وخاصة الدكتور حسن المودن في مقاله القيم" شعرية القصة القصيرة جدا" المنشور في عدة مواقع رقمية الكترونية كدروب والفوانيس...ومحمد علي سعيد في دراسته " حول القصة القصيرة جدا" ، وحسين علي محمد في" القصة القصيرة جدا، قراءة في التشكيل والرؤية"،وعدنان كنفاني في" القصة القصيرة جدا، إشكالية في النص أم جدلية حول المصطلح...!"، والدكتور يوسف حطيني في" القصة القصيرة جدا عند زكريا تامر" و إبراهيم سبتي في" محنة القصة القصيرة جدا" ، علاوة على مقالات ودراسات أخرى منشورة هنا وهناك و التي تناولت القصة القصيرة جدا بمقاربات تجنيسية وتاريخية وفنية . وعقدت منتديات ولقاءات ومؤتمرات وندوات وسجالات حوارية ومسابقات عديدة، و أعدت أيضا ملفات ركزت على فن القصة القصيرة جدا قصد التعريف بهذا الفن الوليد وتقويمه سلبا وإيجابا وتوجيه كتابه توجيها صحيحا. 4- تطور القصة القصيرة جدا وجذورها التاريخية: إذا أردنا تتبع تطور فن القصة القصيرة جدا سنجد أنه منتوج إبداعي أوربي ظهر في القرن العشرين مع كتاب الرواية الجديدة الذين مالوا إلى التجريب والتثوير وتغيير بنية السرد من أجل تأسيس حداثة قصصية وروائية جديدة. وهكذا تفاجئنا نتالي ساروت Nathalie Sarraute الكاتبة الفرنسية بأول نص قصصي قصير جدا بعنوان( انفعالات) عام 1932م ، وكان أول بادرة موثقة علميا لبداية القصة القصيرة جدا، وأصبحت هذه المحاولة نموذجا يحتذى به في الغرب . وترجم هذا النص الإبداعي الجديد في السبعينيات من القرن العشرين، فبدأت الصحف والمجلات العربية المتخصصة في فن القص تتأثر بكتابة نتالي ساروت وتستلهم تقنيات السرد الموظفة لديها. وقد انتقل هذا التأثير إلى دول أمريكا اللاتينية التي ازدهر فيها فن القصة القصيرة لعوامل ذاتية وموضوعية، ومن أهم كتابها خوليو كورتاثار وخوان خوصي أريولا وخوليو طوري وأدولفو بيوي كاسارس وإدواردو غاليانو وخابيير تومبو و بورخيس وإرنستو ساباتو وروبرتو بولانيو وخوسي دونوسو وفيكتوريا أوكامبو وخوان بوش وأوغيستو مونتيروسو وبيخيلبو بينيرا وفلسبرتو هرنانديث وآخرون كثيرون... ويمكن أن نجد لفن القصة القصيرة جدا جذورا عربية تتمثل في السور القرآنية القصيرة والأحاديث النبوية وأخبار البخلاء واللصوص والمغفلين والحمقى وأحاديث السمار والنكت والأحاجي والألغاز ونوادر جحا... ومن ثم، يمكن أن نعتبر الفن الجديد امتدادا تراثيا للنادرة والخبر والنكتة والقصة والحكاية، وفي العصر الحديث امتدادا للقصة القصيرة التي خرجت من معطف گوگول. هذا، وقد ظهرت القصة القصيرة جدا في أدبنا العربي الحديث حسب المعلومات التي بين أيدينا منذ الأربعينيات من القرن العشرين عندما نشر القاص اللبناني توفيق يوسف عواد مجموعته القصصية ( العذارى) عام 1944م، واحتوت على قصص قصيرة جدا، لكنه سماها" حكايات". وفي نفس الفترة سينشر المحامي العراقي يوئيل رسام قصصا قصيرة جدا كما يقول الناقد باسم عبد الحميد حمودي، فعد ذلك بداية لظهور هذا الفن في العراق...ثم تلاحقت الأجيال التي تكتب القصة القصيرة جدا في العراق، وكثر الإنتاج ما بين عقد الستين وعقد السبعين. فانتشرت قصص قصيرة جدا في البلاد مع الكاتب العراقي الفذ شكري الطيار الذي نشر الكثير من نصوصه آنذاك في الصحف والمجلات العراقية وخاصة مجلة "الكلمة" التي توقفت سنة 1985م،كما أوردت بثينة الناصري في مجموعتها القصصية ( حدوة حصان) الصادرة عام 1974م قصة سمتها(قصة قصيرة جدا)، ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته ( القطار الليلي) الصادر عام 1975م ونشرها عبد الرحمن مجيد الربيعي في نفس الفترة، كما كتب الأديب هيثم بهنام بردى قصتها الأولى سنة 1977م بعنوان(صدى)، و نذكر كذلك ضمن اللائحة جمعة اللامي وأحمد خلف وإبراهيم أحمد.... ويتبين لنا من كل هذا أن ولادة فن القصة القصيرة جدا كانت ولادة عراقية على غرار ولادة قصيدة التفعيلة مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. ولكن على الرغم من ذلك، فإن القصة القصيرة جدا لم تتبلور باعتبارها جنسا أدبيا جديدا ولم تثر الجدال الفكري والإبداعي حول الاعتراف بمشروعيتها في ساحتنا الثقافية إلا مع بداية التسعينيات من القرن العشرين في دول الشام وخاصة سوريا ودول المغرب العربي بما فيها المغرب الأقصى وتونس. و من الأسباب الحقيقية وراء ظهور هذا الفن القصصي الجديد في عالمنا العربي وتيرة الحياة السريعة وإكراهات الصحافة والغزو الإعلامي الرقمي والإلكتروني والمثاقفة مع الغرب وترجمة نصوص القصاصين الغربيين وكتاب أمريكا اللاتينية والميل إلى كل ماهو سريع وخفيف والميل إلى الإيجاز والاختصار؛ لأن الكلام عند العرب وبلغائهم وفصحائهم ما قل ودل وطابق المقال المقام وراعى الكلام مقتضى الحال. 5- رواد القصة القصيرة جدا: ومن أهم رواد القصة القصيرة جدا نستحضر من فلسطين الشاعر والقصاص فاروق مواسي... ومن سوريا المبدع زكريا تامر، ومحمد الحاج صالح، وعزت السيد أحمد، وعدنان محمد، ونور الدين الهاشمي، وجمانة طه، وانتصار بعلة ،ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزية جمعة المرعي. ومن العراق شكري الطيار وإبراهيم سبتي، وبثينة الناصري،وخالد حبيب الراوي، وهيثم بهنام بردى الذي كتب عدة مجموعات قصصية ضمن هذا الفن الجديد كمجموعته " حب مع وقف التنفيذ" سنة 1989م، و"الليلة الثانية بعد الألف" سنة 1996م، و"عزلة أنكيدو" سنة 2000م.... ومن المغرب نذكر حسن برطال في مجموعة من أقاصيصه المتميزة بالروعة الفنية وهي منشورة في عدة مواقع رقمية وخاصة موقع دروب ، وسعيد منتسب في مجموعته القصصية ( جزيرة زرقاء 2003م)، وعبد الله المتقي في مجموعته القصصية( الكرسي الأزرق 2005م)، وفاطمة بوزيان في كثير من لياليها وكتاباتها الرقمية المتنوعة، ومحمد فاهي وعز الدين الماعزي الذي كتب بدوره مجموعة من النصوص الساخرة في موقع دروب الرقمي والتي لها توجه اجتماعي وسياسي ينتقد فيها الواقع المغربي بكل تناقضاته المفارقة .... ومن تونس لابد من ذكر الكاتب الروائي والقصاص المقتدر إبراهيم درغوثي الذي كتب مجموعة من النصوص القصيرة جدا في عدة مواقع رقمية كقصصه "حب مجانين" في موقع أدب فن... ومن الجزائر نذكر عبد القادر برغوث الذي كتب مجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدا في عدة مواقع رقمية ولاسيما في موقع إيلاف(26/12/2006م)... ومن السعودية لابد من استحضار فهد المصبح في مجموعته القصصية(الزجاج وحروف النافذة)... 6- الخصائص الفنية والشكلية: تعرف القصة القصيرة جدا بمجموعة من المعايير الكمية والكيفية والدلالية والمقصدية والتي تحدد خصائصها التجنيسية والنوعية والنمطية: أ‌- المعيار الكمــــــي: يتميز فن القصة القصيرة جدا بقصر الحجم وطوله المحدد، ويبتدئ بأصغر وحدة وهي الجملة كما في قصة المغربي حسن برطال"حب تعسفي": " كان ينتظر اعتقالهما معا...لتضع يدها في يده ولو مرة واحدة"، إلى أكبر وحدة قد تكون بمثابة فقرة أو مقطع أو مشهد أو نص كما عند فاروق مواسي وسعيد منتسب وعبد الله المتقي وفاطمة بوزيان. وغالبا لا يتعدى هذا الفن الأدبي الجديد صفحة واحدة كما عند زكريا تامر وإبراهيم درغوثي وحسن برطال في "ماسح الأدمغة" و"كلاب الگرنة". وينتج قصر الحجم عن التكثيف والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والمقاطع المناسبة واجتناب الحشو والاستطراد والوصف والمبالغة في الإسهاب والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها تشويقا وتأثيرا ودغدغة للمتلقي. ونلاحظ في القصة القصيرة جدا الجمل القصيرة وظاهرة الإضمار الموحي والحذف الشديد مع الاحتفاظ بالأركان الأساسية للعناصر القصصية التي لايمكن أن تستغني عنها القصة إلا إذا دخلت باب التجريب والتثوير الحداثي والانزياح الفني. ب‌- المعيار الكيفـــي أو الفنــي: يستند فن القصة القصيرة جدا إلى الخاصية القصصية التي تتجسد في المقومات السردية الأساسية كالأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور السردي والبنية الزمنية وصيغ الأسلوب، ولكن هذه الركائز القصصية توظف بشكل موجز ومكثف بالإيحاء والانزياح والخرق والترميز والتلميح المقصدي المطمعم بالأسلبة والتهجين والسخرية وتنويع الأشكال السردية تجنيسا وتجريبا وتأصيلا. وقد يتخذ هذا الشكل الجديد طابعا مختصرا في شكل أقصوصة موجزة بشكل دقيق في أحداثها كما في مقطع حسن برطال من نص:﴿ حرب البسوس﴾: " السهام تنطلق...تضرب... الحناجر تصيح...﴿ حبي ليك...يابلادي، حب فريد...﴾ السهام تضرب... الأيادي تتشابك...﴿ حبي ليك...يابلادي،حب عنيف...﴾ السهام تضرب... الأجساد تتناطح...﴿ الحب الغالي...ما تحجبو الأسوار...﴾ انتهت المعركة...جثث هنا وهناك...صمت... جسد تحرك...لازالت فيه روح...حمل اللواء ثم قال: - باسمكم جميعا نشكر مجموعة السهام...انه منظم الحفل...". يصور هذا المقطع القصصي القصير حدث الحرب بخاصية السخرية والتلوين الأسلوبي الكاريكاتوري والإيجاز المكثف بحمولات مرجعية انتقادية قوامها التهكم والأسلبة والتهجين والتكرار الساخر، وتوظيف مستويات لغوية مختلفة من أجل خلق باروديا نصية تفضح صيرورة التناقض والخلاف العربي. وعلى الرغم من هذا القصر الموجز، فالنص يحتوي على كل مقومات الحبكة السردية من أحداث وشخصيات وفضاء ومنظور سردي وكتابة أسلوبية متنوعة. ويتخذ فن القصة القصيرة جدا عدة أشكال وأنماط كالخاطرة والأقصوصة واللوحة الشعرية واللغز والحكمة والمشهد الدرامي وطابع الحبكة السردية المقولبة في رؤوس أقلام كما في (ميركافا) لحسن برطال:" كان يتكلم عن وقائع المعركة...صلبة المقاتلين...خيانة الجيش... ثم الهزيمة...". ومن الأمثلة على اللوحة الشعرية قصة ( في حوض الحمام) للكاتبة المتميزة فاطمة بوزيان التي كتبت بطريقة شاعرية تعتمد على التكرار وموسقة الحروف والانزياح البلاغي: كان يشعر أن الماء الساخن يذيب كل شحمه الفائض... يذيب كل تعبه... يذيب شكوكه.. يذيب سوء التفاهم الذي بينه وبين البسكويت! ي ذ و ب صار ماء لاطفولة له فجأة تذكر مجرى الحوض هب خائفا فعاد إليه شحمه تعبه شكوكه وسوء التفاهم الذي بينه وبين البسكويت وتظهر هذه الشاعرية أيضا في( عروض خاصة) لنفس الكاتبة القاصة: في لحظات وحدته القصوى كان يخرج هاتفه المحمول ويضغط على أزرار الرقم المجاني حيث الصوت الأنثوي الرخيم يذكر بالعروض الخاصة وكان يتذكر الأنثى والأمور الخاصة وقد تتحول القصة القصيرة جدا إلى لوحة تشكيلية كما في( عولمة ) للكاتبة المغربية فاطمة بوزيان: هم الأستاذ بالكتابة على السبورة تكسر الطبشور حاول الكتابة بما تبقى في يده، خربش الطبشور السبورة في صوت مزعج اغتاظ . والتفت على يمينه قائلا - اتفو على التخلف في زمن العولمة يسلموننا. كما تتجسد القصة القصيرة جدا في عدة مظاهر أجناسية وأنماط تجنيسية كالقصة الرومانسية والقصة الواقعية والقصة الفانطاستيكية والقصة الرمزية والقصة الأسطورية، كما تتخذ أيضا طابعا تجنيسيا في إثبات قواعد الكتابة القصصية الكلاسيكية، وطابعا تجريبيا أثناء استلهام خصائص الكتابة القصصية والروائية المعروفة في القص الغربي الجديد والحداثي، وطابعا تأصيليا يستفيد من تقنيات التراث في الكتابة والأسلبة. هذا، وتتميز الجمل الموظفة في معظم النصوص القصصية القصيرة جدا بالجمل الموجزة والبسيطة في وظائفها السردية والحكائية، حيث تتحول إلى وظائف وحوافز حرة بدون أن تلتصق بالإسهاب الوصفي والمشاهد المستطردة التي تعيق نمو الأحداث وصيرورتها الجدلية الديناميكية. وإذا وجدت جمل مركبة ومتداخلة فإنها تتخذ طابعا كميا محدودا في الأصوات و الكلمات والفواصل المتعاقبة امتدادا وتوازيا وتعاقبا. وتمتاز هذه الجمل بخاصية الحركة وسمة التوتر والإيحاء الناتج عن الإكثار من الجمل الفعلية على حساب الجمل الاسمية الدالة على الثبات والديمومة وبطء الإيقاع الوصفي والحالي والاسمي. ويتميز الإيقاع القصصي كذلك بحدة السرعة والإيجاز والاختصار والارتكان إلى الإضمار والحذف من أجل تنشيط ذاكرة المتلقي واستحضار خياله ومخيلته مادام النص يتحول إلى ومضات تخييلية درامية وقصصية تحتاج إلى تأويل وتفسير واستنتاج واستنباط مرجعي وإيديولوجي. ويتحول هذا النص القصصي الجديد إلى نص مفتوح مضمن بالتناص والحمولات الثقافية والواقعية والمستنسخات الإحالية خاصة عند الكاتب المغربي حسن برطال كما في( الثأر)،و( ماسح الأدمغة)، و( ثلاث زيارات لملاك الموت)،و(ميركافا)،و( الضمير المنفصل...لايستحق أن يكون كلمة)،و( مي شدياق)...، لذلك يحتاج هذا النص التفاعلي إلى قراءات عديدة وتأويلات مختلفة تختلف باختلاف القراء والسياقات الظرفية. ويساهم التدقيق والتركيز في خلق شاعرية النص عبر مجموعة من الروابط التي تضفي على النص الطابع القصصي والتراتبية المنطقية والكرونولوجية، بله عن خاصية الاختزال والتوازي والتشظي البنائي والانكسار التجريبي. ومن حيث البلاغة ، يوظف الكاتب في نصه الأجناسي الجديد المجاز بكل أنواعه الاستعارية والرمزية من أجل بلورة صورة المشابهة وصورة المجاورة وصورة الرؤيا القائمة على الإغراب والإدهاش والومضات الموحية الخارقة بألفاظ إنشائية أو واقعية تتطلب تأويلات دلالية عدة لزئبقيتها وكثافتها التصويرية بالأنسنة والتشخيص والتجسيد الإحيائي والتضاد والانزياح والتخييل . ويمكن الحديث أيضا عن بلاغة البياض والفراغ بسبب الإضمار والاختزال والحذف . وكل هذا يستوجب قارئا ضمنيا متميزا ومتلقيا حقيقيا متمكنا من فن السرد وتقنيات الكتابة القصصية. كما ينبغي أن تكون القراءة عمودية وأفقية متأنية عالمة ومتمكنة من شروط هذا المولود الجديد، وألا يتسرع القارئ في قراءته وكتابته النقدية على الرغم من كون القصة القصيرة جدا هي كتابة سريعة أفرزتها ظروف العولمة وسرعة إيقاع العصر المعروف بالإنتاجية السريعة والتنافس في الإبداع وسرعة نقل المعلومات والخبرات والمعارف والفنون والآداب. ج- المعيار التداولي: تهدف القصة القصيرة جدا إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي، والذي يعاني أيضا من ويلات الحروب الدونكيشوتية والانقسامات الطائفية والنكبات المتوالية والنكسات المتكررة بنفس مآسيها ونتائجها الخطيرة والوخيمة التي تترك آثارها السلبية على الإنسان العربي ، فتجعله يتلذذ بالفشل والخيبة والهزيمة والفقر وتآكل الذات... كما ينتقد هذا الفن القصصي الجديد النظام العالمي الجديد وظاهرة العولمة التي جعلت الإنسان معطى بدون روح، وحولته إلى رقم من الأرقام، وبضاعة مادية لاقيمة لها، وسلعة كاسدة لاأهمية لها . وأصبح الإنسان- نتاج النظام الرأسمالي "المغولم " - ضائعا حائرا بدون فعل ولا كرامة، وبدون مروءة ولا أخلاق، وبدون عز ولا أنفة، معلبا في أفضية رقمية مقننة بالإنتاجية السريعة والاستهلاك المادي الفظيع ، كما صار مستلبا بالآلية الغربية الطاغية على كل مجتمعات العالم "المعولمة" اغترابا وانكسارا. 7- الخصائص الدلالية: يتناول فن القصة القصيرة جدا نفس المواضيع التي تتناولها كل الأجناس الأدبية والإبداعية الأخرى، ولكن بطريقة أسلوبية بيانية رائعة تثير الإدهاش والإغراب والروعة الفنية، وتترك القارئ مشدوها حائرا أمام شاعرية النص المختزل إيجازا واختصارا يسبح في عوالم التخييل والتأويل، يفك طلاسم النص ويتيه في أدغاله الكثيفة، ويجتاز فراديسه الغناء الساحرة بتلويناتها الأسلوبية، يواجه بكل إصرار وعزم هضباته الوعرة وظلاله المتشابكة. ومن المواضيع التي يهتم بها هذا الفن القصصي القصير جدا تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية وصراعها مع الواقع المتردي، والتقاط المجتمع بكل آفاته، ورصد الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية من خلال منظورات ووجهات نظر مختلفة،ناهيك عن تيمات أخرى كالحرب والاغتراب والهزيمة والضياع الوجودي والفساد والحب والسخرية و التغني بحقوق الإنسان... استنتاج تركيبي: وفي الأخير، نثبت أن فن القصة القصيرة جدا فن صعب المراس يستوجب الدقة ومهارة الكتابة القصصية والتمكن من تقنيات التكثيف والاختزال وتوظيف النزعة القصصية المناسبة بصورها البلاغية والسردية أحسن توظيف لإثارة المتلقي بعنصري الإدهاش والإغراب ودفعه إلى استخدام ملكة التخييل و النقد و التصوير والتجريد، كما على الناقد ألا يتسرع في حكمه وتقويمه وأن يرحب بهذا الفن المستحدث وأن يشجعه ليتبوأ مكانته المناسبة ضمن لائحة الأجناس الأدبية المعروفة. ونسجل ناصحين وموجهين أنه آن الأوان لتوسيع شبكة الأجناس الأدبية و تمديد رقعة نظرية الأدب بفنون جديدة تفرزها ظروف العصر وسرعة إيقاع الحياة المعاصرة التي تفرض علينا شروطها ومتطلباتها التي لا يمكن الانسلاخ عنها أو تجنبها، فلا بد إذاً من التكيف والتأقلم مع مستجدات السياق الزمني الآني خاصة الفنية والأدبية منها، ولابد للمؤسسات التربوية الجامعية والثانوية والإعدادية والابتدائية والمؤسسات الثقافية الخاصة والعامة أن تعترف بكل المنتجات الجديدة في عالم الإبداع سواء أكان ذلك مستوردا من الحقل الغربي أم مستنبتا في الحقل العربي ، وذلك بالتعريف والدراسة والتشجيع وإقرارها في الكتب المدرسية والمناهج والبرامج البيداغوجية والديداكتيكية. ومن هذه الأشكال الأدبية التي نرى أنه من الضروري الاعتراف بها اهتماما وإنصاتا أدب الخواطر وأدب اليوميات وأدب المذكرات وفن التراسل والأدب الرقمي وفن القصة القصيرة جدا وفن الرحلة وفن الزجل والقصيدة النثرية والنقد التفاعلي الذي يرد في شكل تعليقات هامشية على النصوص المنشورة في المواقع الرقمية. ملاحظــــة: جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور ، المغرب jamilhamdaoui@yahoo.fr

شعرية القصة القصيرة جدا عند عز الدين الماعزي

الدكتور جميل حمداوي 
شعرية القصة القصيرة جدا عند عز الدين الماعزي 
شعرية القصة القصيرة جدا عند عز الدين الماعزي 
الدكتور جميل حمداوي 
يعد عزالدين الماعزي من أهم رواد القصة القصيرة جدا في المغرب إلى جانب قيدومها الكبير حسن برطال ، وكتابها البارزين المتميزين كفاطمة بوزيان، وسعيد منتسب في مجموعته القصصية"جزيرة زرقاء"، وعبد الله المتقي في مجموعته" الكرسي الأزرق"، ومحمد فاهي، ومصطفى لغتيري وآخرين... ويتميز عزالدين الماعزي في قصصه القصيرة جدا بخاصية السخرية والروح الكاريكاتورية والواقعية الانتقادية كما في مجموعته الجديدة" حب على طريقة الكبار". إذاً، ما خصائصها المناصية؟ وما هي مميزاتها الشكلية والدلالية؟ وما أبعادها المرجعية والإحالية؟ أ‌- الإطــــار المناصـــــي: أخرج الكاتب القصصي المغربي المتميز عزالدين الماعزي أول مجموعته الإبداعية في جنس القصة القصيرة جدا تحت عنوان"حب على طريقة الكبار" سنة 2006م عن مطبعة وليلي بمراكش. وقد تولى الفنان حلمي التوني رسم غلاف المجموعة وتصميمها تشكيلا وتجريدا. وتعبر الألوان المتداخلة التي تزينت بها اللوحة الأيقونية عن التناقضات القيمية التي يعيش علي إيقاعها الإنسان العربي بصفة عامة والإنسان المغربي بصفة خاصة. وتوحي اللوحة التشكيلية كذلك بانهيار الإنسان المعاصر وجدب المكان وموت القيم الأصيلة، وتصوير الأمل الطفولي في الخصوبة والانعتاق نحو حياة الصفاء والسلام، و استشراف غد أفضل يتطلع إليه الجميع بقلوبهم الحالمة وعيونهم الواسعة. وقد كتبت نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا ما بين 2002 و2004 م ، وقد نشرت سابقا في الكثير من المنابر الرقمية والورقية. ويشتم من خلال إهداء الكاتب أنه بقابل بين عالمين: عالم الكبار وعالم الصغار، أو بين عالم القسوة والشراسة والعنف والشر والسواد، وعالم البراءة والحرية والسلام والخير والبياض. وإذا استعملنا تقنية التواصل كما عند رومان جاكبسون فإننا نجد أن المرسل هو المبدع عزالدين الماعزي، والمرسل إليهم هم: الأبناء والتلاميذ والأصدقاء وأحمد وبسمة وكل أطفال العالم. أما الإرسالية فتتمثل في تحريض كل البشر على الاتحاد والتآزر للقضاء على الشر وزرع ورود الخير والأمل والحب والمودة كما تشير إلى ذلك كلمات الغلاف الخارجي. ولن يخلق هذا العالم الطوباوي اليوتوبي والمثالي إلا عبر الكتابة والأحلام وترجيح قيم الأطفال على قيم الكبار. ويضم كتاب عزالدين الماعزي ستا وثلاثين قصة قصيرة جدا، وتتراوح هذه القصص بين أربعة أسطر كما في لوحة" إسماعين" وقصة" La vache qui rit" وستة عشر سطرا كما في قصة "الحجلة". وعلى العموم إن قصص الكاتب عزالدين الماعزي لا تتعدى الصفحة الواحدة من الحجم المتوسط بمقاس( 21سم/ 13 سم). هذا، وتتميز العناوين الداخلية بهيمنة التركيب الاسمي والمزاوجة بين الجمل البسيطة والجمل المركبة( البائع الذي يسقط الخبز في الطريق)، كما يتكون العنوان الداخلي من لفظة واحدة إلى ست كلمات، والمؤالفة بين الفصحى والعامية واللغة الأجنبية لتشكيل حبكة المجموعة وعقدتها الدرامية والقصصية. ب‌- شكلنـــة المضمون السردي: تتميز مجموعة عز الدين الماعزي " حب على طريقة الكبار" بعدة سمات فنية وخصائص سردية تميز كتابته عن باقي الكتابات الأخرى لدى المبدعين المغاربة. و سنجمل هذه المميزات في الخاصيات الجمالية التالية: 1- السخرية اللاذعـــــــة: يوظف الكاتب السخرية الكاريكاتورية لانتقاد عالم الكبار والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ويستخدم في ذلك التنكيت والتلغيز والإضمار والحذف وتهجين اللغة وخلط الفصحى بالعامية كما في (قصص طويلة جدا):" كلمته ابنته عبر الهاتف عن سر غيابه الطويل عن البيت... قال.. إنه في ندوة ثقافية يشارك بقراءات قصصية قصيرة سيعود بعد ثلاثة أيام... قالت: كل هذه الأيام وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا...؟؟(ص:34). ويسخر الكاتب من القيم التي يدعيها الإنسان المسلم والتي يكذبها الواقع وميدان المعاملات. وتتجسد هذه السخرية القاتمة بواسطة لغة المفارقة وروح التهكم والتقابل بين ماهو دنيوي وأخروي كما في هذا المقطع السردي الجميل الذي يستقطر فيه الكاتب ابتسامة القارئ وضحكه الذي يشبه البكاء:" دخل المسجد للصلاة، وضع حذاءه في المكان المخصص للأحذية، اندفع بين الصفوف وجد مكانا ضيقا وجلس...استمع إلى خطبتي الإمام وهما تتحدثان عن المصير وعذاب جهنم والسعير وجزاء النعيم. صلى مع المصلين دعا مع الباقين.. بحث عن حذائه لم يجده." (ص: 59). 2- التهجين اللغــــوي: ويتكئ الكاتب على الأسلبة والتهجين والمحاكاة الساخرة والباروديا في صياغة قصصه مستعملا في ذلك الفصحى والعامية واللغة الأجنبية واللهجة المغربية التي تحمل في طياتها سخرية انتقادية ، كما يولد الكاتب لغة خاصة في التعبير والتعيير والتلميح والإيحاء كما في قصته الرائعة( بالثلثين) :" تسلم كرسي الجماعة باع اشترى مزق خربق طوق الكرسي بالحنين. قال نبدل السوق القديم، نبني سورا حول المقبرة نهدم دار الشباب نحرث الملعب ونزرع الفول ونضع علامات في الطريق نبتت تجزئات وبنايات في رمشة عين. أغمض هدم ناقش راسل دوزن حول صرف وظف حاصر جادل فوت. في الجمع العام أسقطوه بالثلثين"( 63). وتظهر المفارقة اللغوية لتشكل ظاهرة الباروديا وتجلي خاصية الامتساخ والتحول الفانطاستيكي ، وخاصة عندما ينطق الطبيعة ليشخص قسوة الإنسان وتصوير مدى شراسته وعنفه ضد الطبيعة والبيئة الخضراء:" نزع البتلة الأولى...قال...تحبني نزع البتلة الثانية... قال... لا تحبني نزع البتلة الثالثة والرابعة ... و أكمل البتلات، أسقط الوردة غاضبا بكت الوردة، أحست بالبرد وهي عارية قالت...أنت لا تحبني"( صفحة الغلاف الخارجي). و تشكل قصة الكاتب" نقطة على نقاط" مثالا حيا ساخرا على المفارقة اللغوية وتهجين الفصحى بالعامية والتوليد اللغوي كما في قصته السياسية التي تنتقد زيف السلطة والتلاعب بالمسؤولية والتفريط في أمانة الحكم واللامبالاة في تسييس الرعية والتلاعب بالانتخابات وشرعية الشورى والديمقراطية:" وسط القاعة كان الرئيس قابعا كالرئيس وحوله رجل السلطة والأعداء، أمامهم جدول الأعمال اللغط ونقاط نظام وتوزيع المهام وعن اللجان النائمة بينما الرئيس يصرخ.. ماعندي م نعطيكم، أحسن لي وليكم نمشيو نقابلو بهايمنا... يحتدم النقاش وتكثر التدخلات ينسحب عضو يتبعه آخرون.. من 17 عضوا بقي أربعة يتابعون جدول الأعمال المكون من 13 نقطة"(ص:74). 3- شاعرية الإيحاء والتصوير: ويستند الكاتب في صياغة قصصه الجميلة إلى شاعرية الإيحاء والتضمين والوصف واستعمال التشابيه والنعوت والأحوال والأفعال الوصفية والصور البلاغية المجازية القائمة على المشابهة والمجاورة والترميز والإحالة. وغالبا ما توظف هذه الخاصية أثناء المقابلة بين عالم الكبار الذي يتسم بالشر والنفاق والكذب والزيف والكراهية وعالم الصغار الذي يتسم بالبراءة والطهارة والفطرة والحب. كما تبرز هذه الخاصية أثناء تصوير أحوال الطفولة بين شقائها في البادية وعذاباتها في المدينة، وتألمها بآثار ويلات حروب الكبار وصراعاتهم الدونكشوتية المريرة:" أسفل الساقية رأيتها تحمل جرة ماء،خطوها وئيد تمشي كالنمل طول الطريق...العربة البطيئة تمر قربها لا تنتبه إليها، هي تئن حين تحضر الماء من الساقية إلى البيت والعربة تمد عنقها الخشبي الطويل تتمدد وهي لا تتعب، لا تتعب من نقل الماء في الجرة من الساقية إلى البيت وأنابيب الماء الصالح للشرب تتمدد كلسان يبتلع الطريق تحت أرجل المرأة المثقلة بالجرة، أسفل الساقية والعربة المثقلة ببرميل وجرات الماء الذي...لم يعد صالحا للشرب"( ص:8). وتعبر قصة (الحجلة) أيضا عن الصراع الطفولي البريء الذي يلتئم شمله بسرعة في مقابل صراع الكبار الذي لا ينتهي إلا بالعنف وإسالة الدماء وقطع صلة الرحم والجوار والأخوة. كما يتجسد هذا أيضا في قصة( جسد من الحجارة ) التي تصور مدى فظاعة عالم الكبار وتوحش العدو وتآكل الجسد الطفولي وعجزه عن الاحتمال:"يرمي الولد الحجارة...يرمي...أمام جنزرة.. ركام من الحجارة، يرمي جسده بمقلاع...الجنود خلف دبابتهم خلف قبعاتهم يحتمون، والأطفال يرمون...بالحجارة... يسقط الأول والثاني...ويرمي الطفل الحجر من اليد إلى اليد، تظهر سيارة الإسعاف تحملهما... اليد على الحجر والحجر في اليد. الطفل الذي يشاهد ذلك على الشاشة يأكل، يرمي الخبز والملعقة من يده...يرفض الأكل...يقف ... يرفض الذهاب إلى المدرسة يخرج إلى الشارع يجمع الحجر ويستعد.."(ص:18). 4- خاصية الحــذف والإضمار: يشغل عزالدين الماعزي كثيرا تقنية الإضمار والحذف عن طريق تغييب علامات الترقيم التي لا تظهر إلا في حالات قليلة. أما أهم علامة تحضر بشكل لافت للانتباه هي علامة الحذف بنقطها الثلاث. وهذه الخاصية الترقيمية إن دلت على شيء فإنما تدل على الإيحاء والتلميح والإخفاء وإسكات لغة البوح والاعتراف و الامتناع عن توضيح الواضح وفضح الفاضح. ويحرك الإضمار مخيلة القارئ ويحفزه على التفكير والتخييل والإجابة عن الألغاز المطروحة في سياقاتها المرجعية وأبعادها الانتقادية. وهذا ما يجعل كثيرا من قصص الماعزي ألغازا وقصصا للتنكيت والسخرية المثيرة التي تخاطب العقل والوجدان معا. وخير مثال على خاصية الحذف والإضمار قصة ( شكون) التي تبين سياسة العنف التي يستخدمها الرجل في تعامله مع زوجته والاستهتار يقيم الأسرة ومواثيق المساكنة الشرعية:" خرج من بيته على دقات الساعة العاشرة صباحا، طلبت منه الزوجة أن يوصل الخبز إلى الفران، رفع كتفه، فتل شاربه ومضى... التصقت بساقه الصغرى دفعها خلفه وصفق الباب بعنف،، في العاشرة ليلا عاد ثملا، فتش في سترته، أدخل يده في جيب سرواله، عن حزمة المفاتيح التي.. بدل عاود دون جدوى، طويلا بحث...على إيقاع الضجيج الذي أحدثه أطلت الزوجة من كوة النافذة..وقالت..."(ص:12). 5- تسريع الإيقاع الســـردي: ويستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات. ومن الأدلة على ذلك الإتباع الفعلي وكثرة الاسترسال في الجمل والأفعال التي تصور حركية الأحداث وسرعتها الانسيابية مثل اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة. ومن ثم، يمكن إدراج قصص الماعزي ضمن القصص اللقطات أو القصص الألغاز والتنكيت على غرار نوادر جحا وأخبار الحمقى والمغفلين الموجودة في سردنا العربي القديم. ومن الأمثلة القصصية المعبرة عن خاصية تسريع الإيقاع السردي قصة ( بدون) :" دخل الحمام بقفته الفوطة الملابس الداخلية صابونة مشطا محكا وشامبوان... نزع كلابسه ثوبا ثوبا ودخل للاستحمام. جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون..."(ص:48). ويظهر هذا أيضا واضحا في آخر قصة (بالثلثين): " أغمض هدم ناقش راسل دوزن حول وظف حاصر جادل فوت."(ص:64). 6- التبئير السردي الموضوعي: يستعمل الكاتب على مستوى السرد الرؤية من الخلف وضمير الغياب بكثرة والوصف الخارجي ورصد ماهو نفسي داخلي. وهذه الرؤية السردية يسميها جيرار جنيت درجة الصفر في الكتابة. وهنا ينزل الكاتب منزلة الحياد الموضوعي وعدم التدخل داخل عالم القصة، بل يكتفي بالوصف ونقل الأحداث والتعليق والتقويم من خلال فعل السخرية، والتقبيح الكاريكاتوري كما في قصة(عماد الطابوزي)، والتنكيت الملغز. ومن الأمثلة الدالة على هذا المنظور السردي الذي يعتمد على المعرفة المطلقة قصة( درجة الصفر في الكتابة):" في غرفته وجد نفسه وحيدا ...باردا... كانت الطفلة تعزف على بيانو... أسند ظهره للحائط وبدأ يستمع، رأسه يدور... كان واضحا أن الموسيقى حركت وجدانه،ذكرياته، هي دائما هكذا تسمعه جديد الأنغام الشجية، أحس بذاته تمتلئ إلى درجة أنه فكر في كتابة مواضيع...,طرح أسئلة...بهدوء تام وحذر أخذ القلم وبدأ يكتب..."(ص: 20). 7- الطابع الفانطاستيكي والتحول الامتساخي: تتميز قصص عز الدين الماعزي بخاصية التغريب والتعجيب الفانطاستيكي بسبب تداخل الواقع مع الخيال والعقل مع اللاعقل وذلك من أجل التنديد بالامتساخ البشري وتحول الإنسان إلى كائن غريب لا يتميز عن عالم الأشياء والحيوانات قسوة وشراسة وقبحا وتشيؤا. ومن أمثلة هذا التعجيب الفانطاستيكي قصة (La vache qui rit): " جانب الطريق مدت الأستاذة يدها للسيارات التي تمر ذابلة كأوراق الخريف. وقف السائق...سألها إلى أين...؟ حددت له الوجهة فتح لها الباب الخلفي، ركبت..وجدت نفسها بجانب بقرة ضاحكة"(ص:62). 8- التكثيــف الوصفي: وتمتاز قصص الماعزي بخاصية التكثيف الوصفي والإيجاز في التصوير والاقتصاد في التشخيص وتفادي الوقفات الوصفية المملة كما في الروايات الطويلة. ويرتكز الوصف في قصص الكاتب على الإيحاء والتضمين الشاعري والتقليل من استعمال الأوصاف والنعوت والصور التشخيصية والمجازية والاجتناب قدر الإمكان خطاب الإطناب و لغة الإسهاب و إيقاع التطويل والتكرار المجاني . كما يبتعد عن الترادف الوصفي والتتابع النعتي قصد خلق قصص رمزية موجزة يتخيل فيها القارئ نهايتها وصيغتها التركيبية. وإليكم مثالا يصور وضعية الفنان ومأساته التراجيدية والحلم الطفولي الباهت، ونلاحظ في النص اقتصادا في الأوصاف واختزالا في التوصيف النعتي " يجلس إسماعين أمام اللوحة الغريبة، يتأمل الصورة، صورة رسام رسم لوحة بيضاء ومربعا أسود...و يغني. التفت إسماعين يمينا ويسارا لعل أحدا يراه، تمنى في نفسه أن يكون في نفس الإطار الأبيض الذي تركه الفنان فارغا"(ص:56). 9- تراكــب الجمل وتعاقبها المسترسل: من أهم الملاحظات التي نستخلصها من تتبعنا لقصص عز الدين الماعزي تراكب الجمل وتداخلها وتعاقبها استرسالا وانسيابا بدون حدود وفواصل تركيبية ونظمية. وهذا الترادف والتراكب الجملي والمزاوجة بين الجمل البسيطة والجمل المركبة هو الذي يعطي لقصصه رونقها الإبداعي الشاعري ومتعتها الجمالية الفنية وفائدتها الرمزية كما في هذه القصة التي تصور زلزال الحسيمة وانبطاح ليلى و ضياع أحلامها الوردية بوفاة كل أفراد أسرتها:" بعد ثوان من زلزال الثلاثاء الأسود بالحسيمة، توفي كل أفراد أسرة ليلى، وحيدة ليلى تذرف دموع الفراق لا تعرف ليلى كيف حصل ذلك هي التي كانت تحلم بيوم سعيد وبعالم بدون حواجز...هي الآن وحيدة وحيدة، ترى الحزن بعين واحدة يطل من كل العيون تكتفي بالنظر إلى هذه الثواني التي مرت وراء زجاج نافذة المستشفى. هي التي كانت ترسم بالألوان ما خطته بقلم الرصاص مثل فراشة وتتلعثم بأحرف الهجاء وأناشيد الطفولة كلما خلت إلى نفسها تغني وهي تقفز على الحبل رعب الزلزال الذي تركها بدون أهل..."(ص:44). 10- النزعة القصصية والســـردية: وتكتمل في مجموعة عزالدين الماعزي الخاصية الشاعرية وخاصية النزعة القصصية. و نعني بهذا أن قصصه الرمزية والتقريرية معا تتوفر فيهما الحبكة السردية والنزعة القصصية بمكوناتها الخمس: الاستهلال السردي، والعقدة الدرامية، والصراع، والحل ، والنهاية التي قد تكون مغلقة معطاة، أو مفتوحة يرجى من القارئ أن يملأ فراغ البياض ونقط الحذف عن طريق التخييل والتصوير واقتراح الحلول الممكنة. ويا للعجب العجاب! فما تقوله قصة من قصص الماعزي الموجزة في أربعة أسطر أو صفحة واحدة من الحجم المتوسط تعجز كثير من الروايات الكلاسيكية والحداثية بصفحاتها الطويلة ومجلداتها المتسلسلة أن تقوله بوضوح و جلاء وروح شاعرية فكاهية مقنعة. ومن هنا نرى أن القصة القصيرة جدا ستكون جنس المستقبل بلا منازع مع التطور السريع للحياة البشرية والاختراعات الرقمية الهائلة وسرعة الإيقاع في التعامل مع الأشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية. ومن أمثلة النزعة القصصية المحبكة بشكل متكامل في صياغة الأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور والزمن والسجلات اللغوية والخاصية الوصفية نذكر قصة(حذاء شطايبه):" يضع شطايبه قبعته نظارته السوداء يهيم في الشارع يخيط بعينيه أرداف الفتيات ويمسح غبار الأزقة وكراسي المقاهي. لا يدري شطايبه الذي أصابه إنه قلق منقبض كتوم... شطايبه يضع صندوقه في يده يتابع سيره بين المقاهي يتطلع إلى الأحذية التي تود المسح... وهو في طريقه يصطدم مع كلب هو الآخر يبحث عن عظمة أو فتات أمام باب مقهى يلتفت إليه ينهره يرفع رجله ليضربه يرفع الكلب أذنه تظهر أنيابه يفتح فاه يزمجر الطفل يغضب الكلب يرفع رجله يتلقاه الكلب فيلقم حذاءه يهرب الكلب بالحذاء يرمي شطايبه الصندوق يجري ويجري يضيع الصندوق والحذاء..."(ص:50). استنتـــاج تركيبي: يتبين لنا من خلال هذا العرض الوجيز أن عز الدين الماعزي متمكن من فن القصة القصيرة جدا تمكنا تاما، يحسن توظيف تقنياته التعبيرية الرائعة في خلق السخرية وفكاهة التنكيت والتلغيز وإثراء شاعرية التصوير والتشخيص. وتتميز قصصه بالواقعية الانتقادية حيث تتحول مجموعته القصصية إلى مرآة صادقة تعكس كل التناقضات والصراعات الجدلية وانحطاط الإنسان وتردي القيم الكمية والكيفية في عالمنا اليوم الذي يتقابل فيه الصغار والكبار، كما تتقابل فيه المحبة والكراهية والخير والشر. ونلاحظ كذلك أن الماعزي كان وفيا لشعرية جنس القصة القصيرة جدا بناء وصياغة ودلالة ومقصدية . وتنم قصصه الشيقة على مستوى التناص والتفاعل النصي والحواري عن مدى تأثر الماعزي إلى حد كبير عن وعي أو بدون وعي بقصص الكاتب المغربي أحمد بوزفور والكاتب السوري زكريا تامر والكاتب المصري يوسف إدريس.... ملاحظة: جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون ، الناظور 62002، المغرب. jamilhamdaoui@yahoo.fr www.jamilhamdaoui.com